الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

388 - سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ، يكنى أبا عثمان ، ويكنى أبا سعيد :

جده أبو أحيحة ، قتل أبوه العاص يوم بدر كافرا ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين . وكان سعيد كريما ، استسقى يوما من دار بالمدينة ، ثم عرض صاحب الدار الدار للبيع ، فقال : لم يبيعها ؟ قالوا : عليه دين أربعة آلاف دينار ، فقال : إن له لحرمة لسقيه إيانا . فركب إليه ومعه غريمه ، فقال للغريم : هي لك علي ، وقال لصاحب الدار : استمتع بدارك .

وكان الناس يتعشون عنده ، وكان فيهم رجل من القراء افتقر ، فقالت له زوجته : قد بلغنا عن أميرنا هذا كرم فاذكر له حالك فلعله أن ينيلنا شيئا ، فقال : ويحك ، لا تخلقي وجهي ، قالت : فاذكر له على كل حال . فتصرم الناس ليلة عنه ، وثبت الرجل ، فقال : سعيد : أظن جلوسك لحاجة ، فسكت ، فقال لغلمانه : تنحوا ، ثم قال له : رحمك الله ، إنما أنا وأنت فاذكر حاجتك ، فسكت ، فأطفأ السراج ثم قال : رحمك الله ، لست ترى وجهي فاذكر حاجتك ، فقال : أصلح الله الأمير ، لقد أصابتنا حاجة فأحببت ذكرها لك ، فقال : إذا أصبحت فالق فلانا وكيلي . فلما أصبح [ ص: 297 ] الرجل لقي الوكيل ، فقال له : إن الأمير قد أمر لك بشيء فائت بمن يحمله معك ، فقال : ما عندي من يحمل ، ثم انصرف إلى زوجته فأخبرها الخبر وجعل يلومها ويقول : ما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر وقفيز بز وذهب ماء وجهي ، لو كانت دراهم أعطانيها ، فقالت له امرأته : يا هذا ، قد بلغ بنا الأمر ما ترى فمهما أعطاك فإنه يقوتنا ، فأتى الوكيل ، فقال : أين تكون ؟ أخبرت الأمير أنه ليس عندك من يحمل فأمرني أن أوجه معك من يحمل معك ما أمر به ، ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان على رأس كل واحد منهم بدرة دراهم وقال : امضوا معه ، فلما بلغ الرجل باب منزله فتح بدرة منها فأخرج دراهم ودفعها إلى السودان وقال : انصرفوا ، قالوا : إلى أين ، نحن عبيدك ، إنه ما حمل مملوك للأمير قط هدية إلى أحد فرجع المملوك إلى ملكه . قال : فصلحت حال الرجل .

ولما احتضر سعيد قال لبنيه : لا يفقدن مني إخواني غير وجهي ، فاصنعوا لهم ما كنت أصنع ، وأجروا عليهم ما كنت أجري ، فاكفوهم مئونة الطلب ، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد ، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجة أعظم عليكم منة منكم عليه بما تعطونه .

أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البارع ، أخبرنا أبو جعفر بن مسلمة ، قال : أخبرنا أبو طاهر المخلص ، قال : حدثنا أحمد بن سليمان بن داود ، قال : حدثنا الزبير بن بكار ، قال : حدثني رجل ، عن عبد العزيز بن أبان ، قال : حدثني خالد بن سعيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد فقالت : إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب ، فقال : "أعطيه هذا الغلام " : يعني سعيد بن العاص ، وهو واقف . ومات سعيد بن العاص في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة ، ودفن بالبقيع ، وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق وأمره أن يدفنه بالبقيع ، وقال : إن قليلا لي عند قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع ، ففعلوا ، وأمر ابنه عمرا إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه ويبيعه منزله بالعرصة ، وكان منزلا قد أنحله سعيدا ، وغرس فيه النخل وزرع وبنى فيه قصرا معجبا ، وقال لابنه : إن منزلي هذا ليس في العقد ، إنما هو منزل برة ، فبعه من معاوية واقض عني ديني ومواعيدي ، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي .

[ ص: 298 ] فلما دفنه عمرو ووقف الناس بالبقيع فعزوه ، ثم ركب رواحله إلى معاوية ، فقدم عليه فنعاه له ، فاسترجع وتوجع لموته ، ثم قال : هل ترك من دين ؟ قال : نعم ، قال : فكم ؟ قال : ثلاثمائة ألف درهم ، قال : هي علي ، قال : قد أبى ذلك وأمرني أن أقضي عنه من أمواله ، أبيع ما استباع منها ، قال : فاعرضني ما شئت ، قال : أنفسها وأحبها إلينا وإليه في حياته ، منزله في العرصة ، فقال له معاوية : هيهات لا تبيعون هذا المنزل ، انظر غيره ، قال : فما نصنع ، نحب تعجيل قضاء دينه ، قال : قد أخذته بثلاثمائة ألف درهم ، قال : اجعلها بالواقية - يريدون درهم فارس ، الدرهم زنة مثقال الذهب - قال : قد فعلت ، قال : فاحملها إلى المدينة ، قال : قد فعلت ، فحملها له ، فقدم عمرو بن سعيد فجعلها في ديونه وحاسبهم بما بين الدراهم الواقية - وهي البعلية - وبين الدراهم الجوار - وهي تنقص في العشرة ثلاثة ، كل سبعة بالبعلية عشرة بالجوار - حتى أتاه فتى من قريش فذكر حقا له في كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض نفقاته ، وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد ، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى - وهو صعلوك من قريش - هذا المال ، فأرسل إلى مولى أبيه الصك فلما قرأه المولى بكى ثم قال : نعم أعرف هذا الصك ، وهو حق ، دعاني مولاي فقال لي وهذا الفتى عنده على بابه ، معه هذه القطعة الأديم : اكتب ، فكتبت بإملائه هذا الحق ، فقال عمرو للفتى : وما سبب مالك هذا ؟ قال : رأيته يمشي وحده فقمت مشيت حتى بلغ باب منزله ، ثم وقفت ، فقال : هل من حاجة ؟ فقلت : لا ، إلا أني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك ، فقال :

وصلتك رحم يا ابن أخي ، ابغني قطعة أديم ، فأتيت خرازا عند باب داره فأخذت منه هذه القطعة ، فدعا مولاه هذا فقال : اكتب ، فكتب عن أبيك هذا الكتاب وكتب فيه شهادته على نفسه ثم دفعه إلي وقال : يا ابن أخي ، ليس عندنا اليوم شيء ، فخذ هذا الكتاب فإذا أتانا شيء فائتنا به إن شاء الله ، فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء . قال عمرو : لا جرم ، لا تأخذها إلا وافية ، فدفعها إليه .

وروى الزبير من طريق آخر : أن معاوية اشترى العرصة بألف ألف درهم ، وكان دين سعيد ثلاثة آلاف درهم ، فاشترى معاوية العرصة من ابن سعيد بألف ألف ، والنخل بألف ألف ، والمزارع بألف ألف .

[ ص: 299 ] وتوفي سعيد في هذه السنة ، وكان عمرو بن سعيد يدعي أن مروان بن الحكم جعل إليه ولاية العهد بعد عبد الملك ، ثم نقض ذلك وجعله إلى عبد العزيز ، فلما خرج عبد الملك إلى حرب مصعب غلق عمرو أبواب دمشق فأعطاه عبد الملك الأمان ثم غدر به فقتله .

389 - شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام ، أبو يعلى :

وهو ابن أخي حسان بن ثابت . كانت له عبادة واجتهاد .

أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزار ، قال : أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال : أخبرنا أبو عمر بن حيوية ، قال : أخبرنا أحمد بن معروف ، قال : أخبرنا الحسين بن الفهم ، قال : حدثنا محمد بن سعد ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا فرح بن فضالة ، عن أسد بن وداعة ، قال :

كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كان كأنه حبة على مقلى ، فيقول : اللهم إن النار أسهرتني ، ثم يقوم إلى الصلاة .

تحول شداد إلى فلسطين فنزل ومات بها في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة .

390 - عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، يكنى أبا عبد الله :

أمه أم رومان بنت عامر ، وهو أخو عائشة لأبويها وكان أسن أولاد أبي بكر ، لم يزل على دين قومه وشهد بدرا مع المشركين ودعا إلى المبارزة فقام أبو بكر الصديق ليبارزه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "متعنا بنفسك " ، ثم أسلم عبد الرحمن في هدنة الحديبية ، وهو الذي قال لمروان لما دعي إلى بيعة يزيد : إنما يريدون أن يجعلوها كسروية أو هرقلية ، فقال مروان : أيها الناس ، هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ، فصاحت به عائشة : ألعبد الرحمن يقول هذا ، كذبت والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الرجل الذي أنزل فيه لسميته ، ولكني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه .

[ ص: 300 ] وهاجر إلى المدينة ، وأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أربعين وسقا ، وروى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكان عبد الرحمن يتجر في الجاهلية إلى الشام بماله ومال قريش فرأى ليلى بنت الجودي فهويها ، فلما فتح خالد الشام زمن عمر صارت إليه فازداد بها شغفا .

أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البارع ، قال : أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة ، قال : أخبرنا أبو طاهر المخلص ، قال : أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود ، قال : أخبرنا الزبير بن بكار ، قال : حدثني محمد بن الضحاك الحراني ، عن أبيه :

أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قدم الشام في تجارة ، فرأى هناك امرأة يقال لها ابنة الجودي على طنفسة لها ولائد ، فأعجبته فقال لها :


أتذكر ليلى والسماوة دونها وما لابنة الجودي ليلى وما ليا     وأنى تعاطى قلبه حارثية
تؤمن بصرى أو يحل الجوابيا     وأني بلاقيها بلى ولعلها
إن الناس حجوا قابلا أن تلاقيا



فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال لصاحب الجيش : إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فظفر بها فدفعها إلى عبد الرحمن فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى شكونه إلى عائشة ، فعاتبته على ذلك ، فقال : والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان ، فأصابها وجع سقط له فوها فجفاها حتى شكته إلى عائشة ، فقالت له عائشة : يا عبد الرحمن ، لقد أحببت ليلى فأفرطت وأبغضتها فأفرطت ، فإما أن تنصفها وإما أن تجهزها إلى أهلها .

قال الزبير : وحدثني عبد الله بن نافع ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه :

أن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق ، وكانت ابنة ملك دمشق .

[ ص: 301 ] ومما يروى لعبد الرحمن في ليلى بنت الجودي هذا :


يا ابنة الجودي قلبي [كئيب ]     مستهام عندها ما يؤوب
جاورت أخوالها حي عك     فلعلك من فؤادي نصيب
ولقد لاموا فقلت ذروني     إن من يلحون فيها الحبيب
غصن بان ما خلا الخصر منها     ثم ما أسفل ذاك كثيب



قالت عائشة : كنت أعاتبه في كثرة محبته لها ، ثم صرت أعاتبه في إساءته إليها ، حتى ردها إلى أهلها .

قال محمد بن سعد : أخبرنا وكيع ، عن عبد الرحمن بن لاحق ، عن ابن أبي مليكة ، قال :

مات عبد الرحمن بالحبشي فحمل حتى دفن بمكة ، فقدمت عائشة من المدينة فأتت قبره فوقفت عليه فتمثلت بهذين البيتين :


وكنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا



ثم قالت : أما والله لو شهدتك ما زرت قبرك ، ولو شهدتك ما حملت من حبشي ميتا ولدفنت مكانك .

[قال ابن سعد : وأخبرنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن عبد الله ] بن أبي مليكة : أن عبد الرحمن بن أبي بكر توفي في منزل له فحملناه على رقابنا ستة أميال إلى مكة ، وعائشة غائبة ، فقدمت بعد ذلك فقالت : أروني قبر أخي ، فصلت عليه .

[قال ابن سعد : وأخبرنا معن بن عيسى ، حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، قال : توفي عبد الرحمن في نومة نامها فأعيت عنه عائشة زمانا .

الحبشي موضع ] .

[ ص: 302 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية