الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

367 - جبلة بن الأيهم :

كان ملك غسان ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له هدية ، ثم لم يزل مسلما حتى كان في زمان عمر رضي الله عنه فوطئ رجل من مزينة ، فوثب المزني فلطمه ، وكان ذلك بدمشق ، فأخذ الرجل فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا : هذا لطم جبلة بن الأيهم ، قال : فليلطمه ، قالوا : وما يقتل ؟ قال : لا ، قالوا : فما تقطع يده ؟ قال : لا ، إنما أمر الله عز وجل بالقود ، قال جبلة : أترون أني جاعل وجهي ندا لوجه جدر جاء من عمق - يعني موضعا في ناحية المدينة - بئس الدين هذا . ثم ارتد نصرانيا ، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم ، فبلغ ذلك عمر فشق ذلك عليه .

وروي لنا خبره على غير هذا الوجه ، وأنه أسلم في زمن عمر . قال أبو عمرو الشيباني : كتب جبلة إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في القدوم عليه ، فأذن له عمر ، فخرج إليه في خمسمائة من بنيه حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بذلك ، فسر عمر وبعث إليه بإنزال ، وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الديباج والحرير ، وركبوا الخيل معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة ، ولبس جبلة تاجه وفيه قرط مارية ، وهي جدته ، ودخل المدينة فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه ، فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطفه وأدنى مجلسه ، ثم خرج عمر إلى الحج ، فحج معه جبلة ، فبينما هو يطوف بالبيت وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحل ، فرفع جبلة يده فهشم أنفه ، فاستعدى عليه عمر ، فبعث إلى جبلة ، فقال له : ما هذا ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف ، فقال له عمر : قد أقررت ، فإما أن ترضي الرجل وأما أن أقيد منك ، قال جبلة : تصنع بي ماذا ؟ قال : آمر بهشم أنفك كما فعلت ، قال ، كيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك ؟ قال : إن [ ص: 257 ] الإسلام جمعك وإياه ، فلست تفضله إلا بالتقى ، قال جبلة : قد ظننت أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية ، قال عمر : دع ذا عنك [فإنك إن لم ترض الرجل ] اقتدته منك ، قال : إذا أتنصر ، قال : إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك .

فلما رأى الجد من عمر قال : أنا ناظر في هذه ليلتي هذه ، وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة ، فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف حتى إذا نام الناس تحمل بخيله ورواحله إلى الشام فأصبحت مكة بلاقع منهم ، فلما أتى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه ، فسر بذلك وظن أنه فتح من الفتوح ، وأجرى عليه ما شاء وجعله من سماره .

[وذكر ابن الكلبي أن الفزاري لما وطئ إزار جبلة ، فلطمه جبلة ، فلطم جبلة كما لطمه ، فوثب عليه غسان فهشموا أنفه وأتوا به عمر ، وذكر في الحديث مثل ما تقدم .

أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ ، أخبرنا عبد القادر بن محمد بن يوسف ، أخبرنا الحسن بن علي الجوهري ، حدثنا أبو عمر بن حيوية ، حدثنا العباس بن العباس بن المغيرة ، حدثنا محمد بن موسى بن هارون ، حدثنا أحمد بن يزك ، حدثنا هشام بن محمد الكلبي ، عن أبيه ، قال :

ذكروا أنه لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني ، وكان من ملوك جفنة ، وذلك في خلافة عمر ، وكتب إلى عمر بإسلامه ، ويستأذنه في القدوم عليه ، فسر عمر بذلك وأذن له في القدوم ، فخرج في خمسين ومائة من أهل بيته حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل وقلدها قلائد الفضة ، وألبسهم الديباج والحرير ، ولبس تاجه وفيه قرط مارية جدته ، وبلغ عمر ، فبعث إليه بالنزل هنالك ، ثم دخل المدينة في هيئته ، فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر ، فدخل على عمر فرحب به ، ثم أقام [ ص: 258 ] أياما ، وأراد عمر الحج ، فخرج معه ، وكان الناس يتعجبون من هيئته ، فبينا هو يطوف بالبيت وطئ رجل من بني فزارة إزاره من خلفه فانحل ، فرفع يده فهشم أنف الفزاري ، فمضى يستعدي عمر عليه ، فبعث إليه ، فأتى فقال : هشمت أنف الرجل ؟ قال : نعم ، اعتمد حل إزاري ، ولولا حرمة الكعبة لضربت بالسيف بين عينيه ، فقال عمر : أما أنت فقد أقررت ، فإما أن ترضي الرجل وإلا أقدته منك ، قال : أوخطر هو لي ؟ قال : نعم ، قال : كيف وأنا ملك وهو سوقة ؟ قال عمر : الإسلام جمعكما ، قال : والله لقد ظننت أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية ، قال عمر : هو ما ترى ، فقال : إذن أتنصر ، قال : إن فعلت قتلتك . واجتمع من حي الفزاري وحي جبلة على باب عمر خلق كثير ، فقال : أنا أنظر في هذا الأمر ليلتي هذه . فانصرف إلى منزله ، فلما ادلهم الليل تحمل بأصحابه إلى الشام في خمسمائة حتى دخل القسطنطينية في زمن هرقل ] فتنصر وقومه فأقطعه هرقل ما شاء ، وأجرى عليه ما شاء وجعله من سماره .

فمكث دهرا ثم كتب عمر إلى هرقل كتابا وبعثه مع رجل من أصحابه ، فأجاب هرقل بما أراد عمر ، ثم قال للرجل : هل لقيت ابن عمك جبلة ؟ قال : لا ، قال : فالقه قال : فأتيته ، فما أخالني رأيت ثياب هرقل من السرور والبهجة ما رأيت من ثياب جبلة ، فاستأذنت ، فأذن وقام ورحب بي عانقني وعاتبني في ترك النزول عليه ، فإذا هو في بهو عظيم من التماثيل والهول ما لا أحسن أصفه وهو على سرير من ذهب ، له أربع قوائم رأسه من ذهب ، وإذا هو رجل أصهب ذو سبال ، وإذا هو قد أمر بالذهب الأحمر فسحل فذر في لحيته ، واستقبل عين الشمس ثم أجلسني على كرسي من ذهب ، فلما تبينته انحدرت عنه وقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا ، وسألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر ، ثم عرفت الحزن فيه ، فقلت : ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام ؟ قال : بعد الذي كان ؟ قلت : نعم ، قد كان الأشعث بن قيس ارتد وضربهم بالسيوف ومنعهم الزكاة ثم دخل في الإسلام ، وزوجه أبو بكر الصديق أخته ، فقال : دع هذا عنك ، ثم أومأ إلى وصيف قائم على رأسه فولى ، فما شعرنا إلا بالصناديق يحملها الرجال ، فوضعت أمامنا مائدة من ذهب فاستعفيت منها ، فأتى بمائدة خلنج ، فوضعت أمامي [ ص: 259 ] وسعى علينا من كل حار وبارد في صحاف من ذهب وفضة ، ودارت علينا الخمر فاستعفيت منها ، ثم أتي بطست من ذهب وأبريق من ذهب . ثم أومأ إلى وصيف له فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت عشر جوار ، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن يساره على كراسي العاج ، وإذا عشر أخر أحسن من الأول ، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن يساره ، ثم أقبلت جارية [من أحسن ما تكون من الجواري ] بطائر أبيض ، وفي يدها اليمنى جام من ذهب فيه مسك وعنبر سحيقان ، وفي يدها اليسرى جام من فضة فيه [ماء ورد ] ما لم أشم مثله ، فنقرت الطائر فوقع في الجام فتقلب فيه ثم في الجام الآخر فتقلب فيه ، ثم سقط على صليب في تاج جبلة ، ثم حرك جناحيه فنثر ذلك على رأس جبلة ولحيته ، ثم شرب جبلة خمرا ثم استهل واستبشر ، ثم قال للجواري : أطربنني ، فخفقن بعيدانهن ، فاندفعن يغنين :


لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول     أولاد جفنة عند قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل     بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول     يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل



فطرب ، ثم قال : هل تعرف لمن هذا الشعر ؟ قلت : لا ، قال : قاله حسان بن ثابت ، قال : هو حي ؟ قلت : نعم ، أما إنه ضرير كبير .

ثم قال : أطربنني ، فغنين :


لمن الدار أقفرت بمغان     بين قرع اليرموك والضمان
ذاك مغن لآل جفنة في الدهر     محاه تعاقب الأزمان



فقال : أتعرف قائل هذا ، ذاك حسان . ثم سكت طويلا ثم قال : ابكينني . فوضعن عيدانهن ونكسن رءوسهن وقلن :


تنصرت الأشراف من عار لطمة     وما كان فيها لو صبرت على ضرر
تكنفني فيها لجاج ونخوة      [وبعت بها العين الصحيحة بالعور ]



[ ص: 260 ]

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني     رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة     وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة     أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة     وقد يصبر العود الكبير على الدبر



ثم انصرف الجواري ، ووضع يده على وجهه يبكي حتى نظرت إلى دموعه تجول كأنها اللؤلؤ ، وبكيت معه ثم نشف دموعه بكمه ، ومسح وجهه وقال : يا جارية هاتي ، فأتته بخمسمائة دينار هرقلية ، فقال : ادفع هذه إلى حسان بن ثابت وأقرئه مني السلام . ثم قال : هاتي ، فأتته بمثلها ، فقال : خذها صلة لك ، فأبيت وقلت : لا أقبل صلة رجل ارتد عن الإسلام ، فقال : أقرئ على عمر والمسلمين السلام .

فجئت إلى عمر فأخبرته ، فقال : ورأيته يشرب الخمر ، فقلت : نعم ، فقال : أبعده الله ، تعجل فانيه بباقيه .

وفي رواية أخرى أن الرسول من حمير اسمه جثامة بن مساحق الكناني .

وروى عبد الله بن مسعدة الفزاري ، قال : وجهني معاوية إلى ملك الروم ، فدخلت عليه ، فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلس الملك ، فقلت : من أنت يا عبد الله ، فقال : أنا رجل غلب علي الشقاء ، أنا جبلة بن الأيهم ، إذا صرت إلى منزلي فالقني . فلما انصرف إلى منزله أتيته فلقيته على شرابه وعنده قينتان تغنيانه بشعر حسان ، فقال لي : ما فعل حسان ؟ قلت : شيخ كبير قد عمي ، فدعا بألف دينار فدفعها إلي وأمرني أن أدفعها إليه وقال : أترى صاحبك يفي إن خرجت إليه ؟ قلت : قل ما شئت أعرضه عليه ، قال : يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا ، وعشرين قرية من الغوطة ، ويفرض لجماعتنا ، ويحسن جوائزنا . قلت : أبلغه . فلما قدمت على معاوية ، قال : وددت أنك أجبته إلى ما سأل فأجيزه له . وكتب إليه معاوية يعطيه ذلك ، فوجده قد مات .

368 - الربيع بن زياد الحارثي :

وكان عامل زياد على خراسان ، فبقي سنتين وأشهرا ، ومات . وكان الربيع قد [ ص: 261 ] خرج يوم جمعة ، فقال : أيها الناس ، قد ملكت الحياة وأنا داع فأمنوا ، ثم رفع يديه بعد الصلاة ، وقال : اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا ، فأمن الناس ، فخرج فسقط وحمل إلى بيته ، واستخلف ابنه .

وفي رواية : استخلف خليد بن عبد الله الحنفي وأقره زياد .

369 - رويفع بن ثابت بن السكن :

له صحبة ، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد فتح مصر ، واختط بها [دارا ] ، ومنزله باق .

روى عنه مرثد بن عبد الله اليزني وغيره . وله بالمغرب ولايات وفتوح . توفي ببرقة وهو أمير عليها لمسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر في هذه السنة .

370 - زياد بن سمية ، وهو الذي يقال له ابن أبيه :

وكان أحمر اللون ، في عينه اليمنى انكسار .

قال سفيان بن عيينة : أول من ضرب الدنانير والدراهم زياد .

وقال أبو رجاء : عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة وولاها زيادا ، قالوا : فملك العراق خمس سنين .

وكتب إلى معاوية : إني قد ضبطت لك العراق بشمالي وبقيت يميني فارغة فاشغلها بالحجاز ، فكتب له عهده ، فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أبى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فذكروا ذلك له ، فقال : ادعوا الله عليه يكفيكموه ، فاستقبل القبلة واستقبلوا ، ودعا ودعوا ، فخرجت طاعونة على إصبعه ، فأرسل إلى شريح وكان قاضيه ، فقال : قد أمرت بقطعها فأشر علي ، فقال شريح : إني أخشى أن تكون الجراح على يدك والألم في قلبك ، وأن يكون الأجل قد دنا وتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه ، أو أن يكون في الأجل تأخير وقد قطعت يدك فتعيش أجذم ويعير ولدك ، فتركها . وخرج [ ص: 262 ] شريح فسألوه فأخبرهم بما أشار عليه ، فقالوا : هلا أشرت عليه بقطعها ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المستشار مؤتمن " . ثم عزم زياد على قطعها وقال : أنام والطاعون في لحاف ، فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع ، فترك ذلك فحضرته الوفاة ، فقال له ابنه : يا أبه ، قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فيها ، فقال : يا بني قد دنا من أبيك لباس خير من لباسه هذا ، وسلب سريع ، فمات لثلاث خلون من رمضان بالثوير بجانب الكوفة ، وكان قد توجه يريد الحجاز واليا عليها ، فلما بلغ الخبر ابن عمر ، قال : اذهب إليك ابن سمية ، لا الدنيا بقيت لك ، ولا الآخرة أدركت .

أخبرنا محمد بن ناصر ، أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله الأنماطي ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي ، قال : أخبرنا الحارث بن محمد بن عبد الكريم ، قال : حدثنا الهيثم بن عدي ، قال : حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، قال : حدثنا عجلان مولى زياد وحاجبه ، قال :

كان زياد إذا خرج إلى المسجد مشيت أمامه حتى يدخل ، وإذا دخل مشيت أمامه حتى يخرج ، وإذا دخل مجلسه فعلت ذلك به ، فدخل يوما مجلسه ، فإذا ضوء في الحائط مثال ثلاثين ، فنظر إليه فقال : يا عجلان ، هل يصل إلى هذا المجلس ضوء من موضع ؟ قلت : لا ، قال : فما هذا ؟ ثم قال : هيه ، هذا والله أجلي ، نعيت إلى نفسي ثلاثين سنة ، والله ما أطمع فيها ثلاثين شهرا ، والله يفعل ما يريد ، أثلاثون يوما ، والله يفعل ما يشاء قال عجلان . فمات والله في آخر يوم من الثلاثين يوما .

[أخبرنا إسماعيل بن محمد ، أخبرنا محمد بن هبة الله العكبري ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، حدثنا ابن صفوان ، حدثنا ] أبو بكر القرشي ، قال : حدثني أبي ، عن هشام بن محمد ، قال : حدثني يحيى بن ثعلبة الأنصاري ، عن أمه عائشة ، عن أبيها عبد الرحمن بن السائب الأنصاري ، قال : [ ص: 263 ] جمع زياد أهل الكوفة ، فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي رضي الله عنه . قال عبد الرحمن : فإني لمع نفر من أصحابي من الأنصار والناس في أمر عظيم ، قال : فهومت تهويمة ، فرأيت شيئا أقبل ، طويل العنق مثل عنق البعير ، أهدب أهدل ، فقلت : ما أنت ؟ فقال : أنا النفاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر . فاستيقظت فزعا ، فقلت لأصحابي : هل رأيتم ما رأيت ؟ قالوا : لا ، فأخبرتهم ، وخرج علينا خارج من القصر فقال : إن الأمير يقول لكم انصرفوا عني فإني عنكم مشغول ، وإذا الطاعون قد أصابه ، فأنشأ عبد الرحمن يقول :


[ما كان منتهيا عما أراد بنا     حتى تناوله النفاد ذو الرقبه ]
وأثبت الشق منه ضربة ثبتت     كما تناول ظلما صاحب الرحبه



قال أبو بكر القرشي : حدثني زكريا بن يحيى ، عن عبد السلام بن مظهر ، عن جعفر بن سليمان ، عن عبد ربه أبي بن كعب الجرموزي :

أن زيادا لما قدم الكوفة قال : أي أهل البلد أعبد ؟ قالوا : فلان الحميري ، فأرسل إليه ، فأتاه فإذا له سمت ونجو ، فقال زياد : لو مال هذا مال أهل الكوفة معه ، فقال له : إني بعثت إليك لأمولك وأعطيك على أن تلزم بيتك فلا تخرج ، قال : سبحان الله ، والله لصلاة واحدة في جماعة أحب إلي من الدنيا كلها ، ولزيارة أخ في الله وعيادة مريض أحب إلي من الدنيا كلها ، وليس إلى ذلك سبيل . قال : فاخرج فصل في جماعة ، وزر إخوانك ، وعد المريض ، والزم لسانك ، قال : سبحان الله ، أرى معروفا لا أقول فيه ، أرى منكرا لا أنهى عنه ، فوالله لمقام من ذلك واحد أحب إلي من الدنيا كلها . قال جعفر : أظن الرجل أبو المغيرة ، فقال : السيف ، فأمر به فضربت عنقه ، قال جعفر : فقيل لزياد : أبشر ، قال : كيف وأبو المغيرة في الطريق .

أنبأنا الجريري ، عن العشاري ، قال : أخبرنا علي بن الحسين ، قال : أخبرنا محمد بن القاسم بن مهدي ، قال : حدثنا علي بن أحمد بن أبي قيس ، قال : حدثنا أبو بكر القرشي ، قال : حدثني سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن سعيد ، عن زياد بن عبد الله ، عن عوانة ، قال : حدثني عبد الرحمن بن الحسين ، عن القاسم بن سليمان ، قال : [ ص: 264 ] وقع طاعون بالكوفة فبدأ زياد ، فخرج من الكوفة ، فلما ارتفع الطاعون رجع فخرج طاعون بأصبعه . قال سليم : فأرسل إلي فأتيته ، فقال : يا سليم ، أتجد ما أجد من الحر ؟ قلت : لا ، قال : والله إني لأجد في جسدي حرا كأنه النار ، واجتمع إليه مائة وخمسون طبيبا ، منهم ثلاثة من أطباء كسرى ، فخلا سليم بطبيب من أطباء كسرى فسأله عنه ، فقال له الطبيب ما به وهو ميت ، فمره بالوصية .

371 - صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم :

كان يحيي الموءودة في الجاهلية ، ثم جاء الإسلام فأسلم .

روى أبو عبده ، عن عقال بن شبة ، قال : قال صعصعة : خرجت باغيا ناقتين لي فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول ، فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى ، فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت : اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار أن لا أجد أهلها يوقدونها لكربة : إلا فرجتها عنهم ، قال : فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها ، فإذا حي من بني أنمار ، وإذا بشيخ يوقدها في مقدم بيته ، والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال ، فسلمت ، فقال الشيخ : من أنت ؟ فقلت : أنا صعصعة بن ناجية ، فقال : مرحبا بسيدنا ، ففيم أنت يا بن أخي ؟ فقلت : في بغاء ناقتين لي ، قال : قد وجدتهما بعد أن أحيى الله بهما أهل بيت من قومك ، وقد تجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى ، وهم شأنك في أدنى الإبل ، قال : ففيم توقد نارك منذ الليلة ، قال : أوقدتها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال ، قال : فقال النساء : قد جاء الولد ، فقال الشيخ : إن كان غلاما فوالله ما أدري ما أصنع به ، وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها إلا قتلتها ، فقلت ، يا هذا ، ذرها فإنها ابنتك ورزقها على الله ، فقال أقتلها ، فقلت : أنشدك الله ، فقال : إني أراك بها حفيا فاشترها مني ، قلت : إني أشتريها منك ، فقال : ما تعطيني ؟ قلت : أعطيك إحدى ناقتي ، قال : لا ، قلت : أزيدك الأخرى ، فنظر إلى جملي الذي تحتي ، فقال : لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن ، فقلت : هو لك على أن تبلغني أهلي ، قال قد فعلت . فابتعتها منه ، وأخذت عليه [ ص: 265 ] عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين عنه أو يدركها الموت ، فلما برزت من عنده حدثت نفسي وقلت : إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب ، ثم قلت : اللهم إن لك علي أن لا أسمع برجل من العرب يريد أن يئد بنتا له إلا اشتريتها بلقوحة وجمل ، فبعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا لم يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل تحريمه في القرآن .

وفي رواية أخرى : أنه جاء الإسلام وقد أحيى ثلاثمائة وستين موءودة .

وفي رواية أربعمائة .

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وتعلم القرآن وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع ، فقال : "لك أجر ذلك إذ من الله عليك بالإسلام " . ثم توفي في هذه السنة

[ ص: 266 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية