الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خروج الخوارج على أمير المؤمنين رضي الله عنه .

لما رجع علي رضي الله عنه من صفين فدخل الكوفة لم تدخل معه الخوارج ، [ ص: 124 ] وكانوا من وقت تحكيمه يردون عليه ولا يرضون بفعله ، فلما رجع باينوه فأتوا حروراء ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا ، وقالوا: لا حكم إلا لله - وكان ذلك أول ظهورهم - ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، والأمر شورى .

فبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن العباس إلى الخوارج ، فقال: ما نقمتم من الحكمين . أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري ، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل ، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، قال: أخبرنا يعقوب بن سفيان ، قال: حدثنا موسى بن مسعود ، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل سماك ، قال: قال ابن عباس: لما اعتزلت الخوارج وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتيته يوما قبل الظهر ، فقلت له: يا أمير المؤمنين ، أبرد بالصلاة لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم ، فقال: إني أخاف عليك ، فقلت: كلا ، وكنت حسن الخلق ، لا أوذي أحدا ، فأذن لي فدخلت عليهم فلم أر قوما أشد منهم اجتهادا جباههم قرحة من السجود ، وأيديهم كأنها نقر الإبل ، وعليهم قمص مرحضة مشمرين ، مشهمة وجوههم من السهر ، فسلمت عليهم ، فقالوا: مرحبا بابن عباس ، ما جاء بك؟ فقال: أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ، ومن عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم ، فقالت طائفة منهم: لا تخاصموا قريشا ، فإن الله تعالى يقول:

بل هم قوم خصمون فقال اثنان أو ثلاثة: لنكلمنه ، فقلت: هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ثلاثا ، أما إحداهن: فإنه حكم الرجال في أمر الله ، وقد قال الله تعالى: إن الحكم إلا لله ، فما شأن الرجال والحكم؟ فقلت: هذه [ ص: 125 ] واحدة ، قالوا: وإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فلئن كانوا مؤمنين ما حل لنا قتالهم وسبيهم . قالوا: ومحى نفسه من أمير المؤمنين ، فإذا لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير الكافرين .

فقلت لهم: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله ، أنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض قولكم ، إن الله صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب ، وتلا قوله تعالى: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم الآية . وفي المرأة وزوجها: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فنشدتكم الله ، هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم ، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في أرنب وبضع امرأة ، فأيهما ترون أفضل؟ قالوا: بل هذه ، قلت: خرجت من هذه؟ قالوا: نعم .

قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فتسبون أمكم عائشة ، فو الله إن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام ، وإن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها خرجتم من الإسلام ، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم .

قلت: وأما قولكم: محى نفسه من أمير المؤمنين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو ، فقال: يا علي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فقالوا: ما نعلم أنك رسول الله ، ولو نعلم ما قاتلناك ، فقال: امح يا علي واكتب: هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله ، فو الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي وقد محى نفسه . فرجع منهم ألفان ، وخرج سائرهم فتقاتلوا .

قال علماء السير: وجاء علي بن أبي طالب [رضي الله عنه إلى القوم] وابن عباس يكلمهم ، فقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء ، قال: فما أخرجكم علينا؟ [ ص: 126 ] قالوا: حكومتك يوم صفين ، قال: أنشدكم بالله ، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني عرفتهم أطفالا ورجالا ، فكانوا شر أطفال وشر رجال ، امضوا على حقكم ، فإنما رفعهم المصاحف خديعة ، فرددتم علي رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم ، فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء .

قالوا له: فخبرنا ، أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال ، إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين ، لا ينطق ، إنما يتكلم به الرجال ، ادخلوا مصركم ، فدخلوا من عند آخرهم .

وقال الخوارج منهم: كان الأمر كما وصفت ، ولكن كان ذلك كفرا منا ، فقد تبنا إلى الله منه ، فتب كما تبنا نبايعك ، وإلا فنحن مخالفون . فانصرف علي بأصحابه ، فقال قوم: إنه أقر لهم بالخطأ ، فصعد المنبر فذكر أمرهم فعابه ، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا لله ، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل .

وفي هذه السنة كان اجتماع الحكمين

فبعث علي رضي الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي ، وفيهم أبو موسى [الأشعري] ، وبعث معهم عبد الله بن عباس يصلي ويلي أمورهم ، ولم يحضر علي وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام ، ثم جاء معاوية ، واجتمعوا بأذرح ، وشهد معهم عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، والمغيرة بن شعبة في جماعة كثيرة .

وخرج عمرو بن سعد بن أبي وقاص ، فأتى أباه وهو بالبادية ، فقال: يا أبت ، قد بلغك ما كان بين الناس بصفين ، وقد حكموا وقد [ ص: 127 ] شهدهم نفر من قريش ، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أهل الشورى ، وأنت أحق بالخلافة ، فقال: لا أفعل ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي" .

والتقى الحكمان ، فقال عمرو بن العاص: يا أبا موسى ، أرأيت أول ما يقضى به من الحق أن يقضى لأهل الوفاء بوفائهم ، وعلى أهل الغدر بغدرهم ، قال: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وافوا وقدموا للموعد؟ قال: بلى ، قال عمرو: اكتبها ، فكتبها أبو موسى ، قال: ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما؟ قال: أشهد ،

قال: أفلست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى ، قال: فإن الله عز وجل قال: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ، فما يمنعك من معاوية ولي عثمان ، وبيته في قريش كما قد علمت ، فإن قال الناس ليس له سابقة فلك حجة ، وهي أن تقول: إني وجدته ولي عثمان المظلوم ، والطالب بدمه ، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني لم أكن لأوليه ، وأدع المهاجرين الأولين والأنصار ، ولو خرج لي من سلطانه ما كنت لأرتشي في حكم الله ، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب .

فأبى عمرو وقال: أخبرني عن رأيك ، قال: رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين ، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا ، فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت ، فأقبلا إلى الناس فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع ، فتكلم أبو موسى فقال: رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة ، فقال عمرو: صدق وبر ، يا أبا موسى ، تقدم فتكلم . فتقدم أبو موسى ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له: ويحك ، والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك قبلك ، فإني لا آمن أن يخالفك ، فقال: إنا قد اتفقنا .

فتقدم أبو موسى ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي عمرو ، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر ، فيولوا منهم ما أحبوا [ ص: 128 ] عليهم ، وإني قد خلعت عليا ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ، ثم تنحى .

وأقبل عمرو فقام مقامه ، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم ، وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي [ معاوية ] ، فإنه ولي عثمان ، والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه ، فقال له أبو موسى: ما لك ، لا وفقك الله ، غدرت وفجرت ، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا .

وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط ، وحمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط ، وقام الناس فحجزوا بينهم . فالتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة . وكان يقول: اطمأننت إلى عمرو وظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصح الأمة ، ولقد حذرنيه ابن عباس .

وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة وقام معاوية عشية في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ، من كان متكلما في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، قال ابن عمر: فأطلعت حويتي فأردت أن أقول: يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام ، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجماعة ويسفك فيها دم وأحمل فيها على غير رأيي ، وذكرت ما وعد الله في الجنان فأمسكت .

قال عمرو بن العاص: بلغني أن عتبة بن أبي سفيان قال لعبد الله بن عباس: ما منع عليا أن يبعثك مكان أبي موسى ، فقال عبد الله : منعه والله من ذلك حاجز القدر ، وقصر المدة ، ومحنة الابتلاء ، أما والله لو بعثني لاعترضت في مدارج نفس عمرو ناقضا ما أبرم ومبرما لما نقض ، أسف إذا طار وأطير إذا أسف ، ولكن مضى قدر وبقي أسف ، والآخرة خير لأمير المؤمنين .

وقال خريم بن فاتك الأسدي هذه الأبيات:


لو كان للقوم رأي يرشدون به أهل العراق رموكم بابن عباس     لله در أبيه أيما رجل
ما مثله لفصال الأمر للناس [ ص: 129 ]     لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن
لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس



أخبرنا أبو القاسم الحريري ، قال: أخبرنا أبو طالب العشاري ، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطني ، قال: حدثنا أبو الحسين إبراهيم بن بيان الرزاد ، قال: حدثنا أبو سعيد الخرقي ، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل ، [قال: سألت أبي] قلت: ما تقول في علي ومعاوية ؟ فأطرق ثم قال: يا بني ، إيش أقول فيهما ، أعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا ، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فوضعوا له فضائل كيدا منهم له . [أو كما قال] .

التالي السابق


الخدمات العلمية