الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أمر القتال

وبعث علي من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير ، [وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة إلى علي ، وأن يكلم كل واحد منهما أصحابه ، فقالوا: نعم ، فلما أمسوا] أرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما ، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه ، ما خلا أولئك الذين هضبوا على عثمان ، فباتوا على الصلح ، وباتوا بليلة لم [ ص: 88 ] يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه ، [والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا ، وركبوا ما ركبوا] ، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة [باتوها قط] ، قد أشرفوا على الهلكة ، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب [في السر] ، واستسروا بذلك خشية أن يفطن لهم ، فغدوا مع الغلس ، وما يشعر بهم [أحد غير] جيرانهم ، فخرج مضريهم إلى مضريهم ، [وربعيهم إلى ربعيهم] ، ويمانيهم إلى يمانيهم ، حتى وضعوا فيهم السلاح ، فثار أهل البصرة ، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم ، وخرج الزبير وطلحة فبعثا إلى الميمنة عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، وثبتا في القلب ، وقالا: ما هذا؟

قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا ، فقالا: قد علمنا أن عليا غير منته حتى يسفك الدماء ، [ويستحل الحرمة] ، وإنه لن يطاوعنا ، ثم رجعا بأهل البصرة .

فسمع علي وأهل الكوفة الصوت ، وقد وضعوا رجلا قريبا من علي ليخبره بما يريدون ، فلما قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما فاجئنا إلا وقوم منهم قد بيتونا ، فرددناهم من حيث جاءوا ، فوجدنا القوم على رجل فركبونا ، وثار الناس ، وقال علي لصاحب ميمنته: ائت الميمنة ، ولصاحب ميسرته ائت الميسرة ، ولقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء ، ونادى علي في الناس: كفوا ، فكان رأيهم جميعا ألا يقتتلوا حتى يبدءوا . وأقبل كعب بن سعد حتى أتى عائشة رضي الله عنهما ، فقال: أدركي ، فقد أبى القوم إلا القتال ، لعل الله يصلح بك . فركبت ، وألبسوا هودجها الأدراع ، ثم بعثوا جملها ، فلما برزت - وكانت بحيث تسمع الغوغاء - وقفت ، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر ، قالت: بخير أم بشر؟ قالوا: بشر . قالت: وأي الفريقين كانت منهم هذه [ ص: 89 ] الضجة فهم المهزومون . فما فجئها إلا الهزيمة ، فمضى الزبير في وجهه ، فسلك وادي السباع ، وجاء طلحة سهم غرب يخل ركبته بصفحة الفرس ، فلما امتلأ موزجه دما وثقل قال لغلامه: ابغني مكانا أنزل فيه ، وتمثل بهذا يقول:


ندمت ندامة الكسعي لما شربت رضا بني سهم برغمي     أطعتهم بفرقة آل لأي
فألقوا للسباع دمي ولحمي

واقتتل الناس وأقبلوا في هزيمتهم يريدون البصرة ، فلما رأوا الجمل طافت به مضر ، فقالت عائشة: خل يا كعب عن البعير وتقدم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه ، ودفعت إليه مصحفا . وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح ، فاستقبلهم كعب بالمصحف ، فرشقوه رشقا واحدا ، فقتلوه ، ثم رموا أم المؤمنين في هودجها ، فجعلت تنادي: يا بني البقية البقية - ويعلو صوتها - اذكروا الله والحساب ، ويأبون إلا إقداما ، فقالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم ، فضجوا بالدعاء ، فسمع علي ، فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم ، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم . وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما ، فاجتلدوا قدام الجمل ، والمجنبتان على حالهما .

وكان القتال الأول يتسحر إلى انتصاف النهار ، وأصيب فيه طلحة رضي الله عنه ، وذهب فيه الزبير ، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلا القتال ، ولم يريدوا إلا عائشة ، اقتتلوا حتى تحاجزوا بعد الظهر ، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة ، فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير ، وفي وسطه مع عائشة ، وتزاحف الناس ، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة ، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة ، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة .

واقتتلت المجنبتان حين تزاحفتا قتالا يشبه ما فيه القلبان ، وأقبل أهل اليمن [ ص: 90 ] على راية علي فقتل على راية علي من أهل الكوفة عشرة ، كلما أخذها رجل قتل قيل: وكان العشرة خمسة من همذان وخمسة من سائر اليمن .

ولما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر جعلوا يتوخون الأطراف: الأيدي والأرجل ، فما رئيت وقعة قط قبلها ولا بعدها ، ولا يسمع بها أكثر يدا مقطوعة [ورجلا مقطوعة] منها ، لا يدرى من صاحبها .

فلما ظهر الخلل في العسكرين رموا الجمل ، وقالوا: لا يزول القوم أو يصرع الجمل ، وأزرت مجنبتا علي فصارت في القلب ، وكانت أم المؤمنين في حلقة من أهل النجدات والبصائر ، وكان لا يأخذ أحد بالزمام إلا كان كمن يحمل الراية ، وكان لا يأخذه إلا معروف عند المطيفين بالجمل ، فإن القوم ليقتتلون عليه ، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ، ثم لم يعد . ولما اختلط الناس بالقلب جاء عدي بن حاتم فحمل عليه ، ففقئت عينه ونكل .

وحدثنا سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال: كان لا يجيء رجل فيأخذ بالزمام حتى يقول: أنا فلان بن فلان ، فجاء عبد الله بن الزبير ، فقالت: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن الزبير ، فقالت: وا ثكل أسماء . وانتهى إلى الجمل الأشتر ، وعدي بن حاتم ، فخرج عبد الله بن حكيم بن حزام إلى الأشتر ، فاختلفا ضربتين ، فقتله الأشتر ، ومضى إليه عبد الله بن الزبير فضربه الأشتر على رأسه ، فجرحه جرحا شديدا ، وضرب عبد الله الأشتر ضربة خفيفة ، واعتنق كل واحد منهما صاحبه ، وخرا إلى الأرض يعتركان . [ ص: 91 ]

وحدثنا سيف ، عن الصعب بن عطية ، عن أبيه ، قال: لا والله ما بقي من بني عامر يومئذ شيخ إلا أصيب قدام الجمل .

وحدثنا سيف ، عن محمد وطلحة ، قالا: كان من آخر من قاتل ذلك اليوم زفر بن الحارث ، فزحف إليه القعقاع ، وقال: يا بجير بن دلجة ، صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أم المؤمنين ، فاجتث ساق البعير وأقطع بطانه وحملا الهودج فوضعاه .

وحدثنا سيف ، عن الصعب ، عن أبيه ، قال: لما اختلط بالجمل وعقره بجير بن دلجة ، قال علي رضي الله عنه:


إليك أشكو عجري وبجري     ومعشرا غشوا علي بصري
قتلت منهم مضرا بمضري     شفيت نفسي وقتلت معشري

وكان رجل يومئذ يقول: يا لمضر ، علام يقتل بعضنا بعضا ، فنادوا لا ندري إلا أنا إلى قضاء .

وحدثنا سيف ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر ، قال: قال طلحة يومئذ: اللهم أعط عثمان مني حتى يرضى ، فجاءه سهم غرب وهو واقف ، فخلى ركبته بالسرج ، فمضى به إلى دار من دور البصرة خربة ، فمات فيها .

وحدثنا سيف ، عن فطر بن خليفة ، عن أبي بشير ، قال: شهدت الجمل ، فو الله ما سمعت دق القصارين إلا ذكرت يوم الجمل .

وحدثنا سيف ، عن محمد بن راشد السلمي ، عن ميسرة أبي جميلة ، أن [ ص: 92 ] محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أتيا عائشة وقد عقر الجمل ، فاحتملا الهودج ، فنحياه ، فقال علي: ادخلا بها البصرة ، فأدخلاها دار عبد الله بن خلف الخزاعي .

وحدثنا سيف ، عن محمد وطلحة ، قالا: أمر علي نفرا بحمل الهودج من بين القتلى ، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير ، فوضعاه إلى جنب البعير ، فأقبل محمد بن أبي بكر [إليه ومعه نفر] ، فأدخل يده فيه ، فقالت: من هذا؟

قال: أخوك البر ، قالت: عققت ، فأبرزوها بهودجها من القتلى ، فوضعوها ليس قربها أحد ، وكأن هودجها فرخ مقصب مما فيه من النبل . وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى اطلع في الهودج ، فقالت: إليك لعنك الله ، فقال: والله ما أرى إلا حميراء ، قالت: هتك الله سترك ، وقطع يدك ، وأبدى عورتك . فقتل بالبصرة ، وسلب ، وقطعت يده ، ورمي به عريانا في خربة من خراب الأزد ، فارتقى إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال: أي أماه ، يغفر الله لنا ولكم ، قالت: غفر الله لنا ولكم .

وحدثنا سيف ، عن الصعب بن حكيم بن شريك ، عن أبيه ، عن جده قال: انتهى محمد بن أبي بكر إلى الهودج ومعه عمار بن ياسر ، فقطعا الأنساع عن الهودج واحتملاه ، فلما وضعاه أدخل محمد يده ، وقال: أخوك محمد ، قالت: مذمم ، قال: يا أخية ، هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت من ذلك في شيء ، قال: فمن إذن ، الضلال؟ قالت: بل الهداة . وانتهى إليها علي رضي الله عنه ، وقال: كيف أنت يا أماه؟ قالت: بخير ، قال: يغفر الله لك ، قالت: ولك .

وحدثنا سيف ، عن محمد وطلحة ، قالا: لما كان من آخر الليل خرج محمد بعائشة حتى أدخلها البصرة ، فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية ابنة الحارث بن طلحة ، وهي أم طلحة الطلحات . [ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية