الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب موت المكاتب

( قال ) رضي الله عنه وإذا مات المكاتب عن مال وعليه دين وجناية وله أولاد أحرار من امرأة حرة وأولاد ولدوا في المكاتبة من أمته وأولاد اشتراهم بدئ بالدين ثم بالجناية ثم بالكتابة ; لأن الحقوق متى اجتمعت في المعين وتفاوتت في القوة يبدأ بالأقوى فالأقوى كما يبدأ في التركة بالجهاز ثم بالدين ثم بالوصية وأصله قوله تعالى { ويؤت كل ذي فضل فضله } والدين أقوى من الجناية ; لأنه كان مالا متقررا في ذمته في حياته والجناية لا تتعلق بذمته إلا بقضاء القاضي أو بفوت الدفع بموته والمال خلف عن ذمته في ثبوت الحق فيه فما كان [ ص: 216 ] أسبق تعلقا بذمته وكان متقررا في نفسه فهو أقوى ثم الجناية أقوى من الكتابة ; لأن الكتابة ليست بدين متقرر فإنه يتمكن من إسقاطها عن نفسه بأن يعجز نفسه والضعيف لا يزاحم القوي فلهذا قدمت الجناية ثم بعدها الكتابة ، وإذا أديت الكتابة حكم بحريته في حال حياته وحرية كل من كان تبعا له في الكتابة فلهذا كان الباقي ميراثا لجميع أولاده ، وكذلك إن كان له ابن مكاتب ; لأنه إذا ضم إليه في عقد الكتابة فهما كشخص واحد لا يعتق أحدهما بحكم الكتابة قبل صاحبه فتسند حرية هذا الابن إلى الوقت الذي استند حرية أبيه ، وإن كان مكاتبا على حدة لم يرث منه شيئا إذا أدى مكاتبته بعد موت أبيه ، وإن كان قبل أداء مكاتبة أبيه ; لأن إسناد الحرية في حق الأب لأجل الضرورة ولا يوجد ذلك في حق الابن إذا كان مكاتبا على حدة بل تقتصر حريته على وقت الأداء فيكون هو رقيقا عند موت أبيه فلا يرث منه شيئا ، وإن كان عليه مهر لامرأة حرة تزوجها بغير إذن مولاه كان دينها بعد قضاء بدل الكتابة ; لأن مهرها متأخر إلى ما بعد العتق فإن سببه لم يظهر في حق المولى ; لأنه ممنوع من النكاح بغير إذن المولى والمرأة راضية بتأخير حقها حين زوجته نفسها بغير إذن المولى فما لم يسقط حق المولى عن كسبه لا يظهر المهر ، فلهذا كان بعد دين الكتابة بخلاف الجناية فهي ظاهرة في حق المولى ولم يوجد من المجني عليه الرضا بتأخير حقه .

وإن لم يترك شيئا يسعى ولده الذين ولدوا في المكاتبة فيها حتى يؤدوها ; لأنه مات عمن يؤدي بدل الكتابة فيجعل كموته عما يؤدي به بدل الكتابة وهو المال ، فإذا أدوا عتق كل من كان تبعا له في المكاتبة وقد بينا أن النجوم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يبقى إلا باعتبار الأولاد الذين ولدوا في المكاتبة وعندهما يبقى ببقاء كل من كان داخلا في كتابته حتى إذا لم يكن له إلا الأولاد الذين اشتراهم فإنهم يباعون عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا لم يؤدوا المال حالا ، ويكون ثمنهم تركة له تؤدى منه كتابته ، وإن كان معهم ولد مولود في الكتابة لم يبع هؤلاء لبقاء النجوم باعتباره يسعون به ، فإن حل على الولد المولود في الكتابة أول نجم ولم يكن له مال حاضر ولا غائب ينتظر ردوا جميعا في الرق ; لأنه قائم مقام أبيه ولو كسر أبوه نجما رد في الرق ، فكذلك هو إن كانوا جماعة بعضهم غائب وعجز الشاهد لم يرد في الرق حتى يحضر الغائب ; لأن الذي عجز جعل كالمعدوم فيبقى النجوم ببقاء الغائب ولا يظهر عجزه عن الأداء ما لم يحضر ولأن كل ولد مولود في الكتابة قائم مقام أبيه ألا ترى أنهم يعتقون بأداء أحدهم [ ص: 217 ] سواء أدى الغائب أو الشاهد فما لم يتحقق عجزهم لا تنفسخ الكتابة ، وإذا مات المكاتب وله ديون على الناس وترك ولدا حرا فهو مولى لموالي الأم ما لم يخرج الدين فيؤدي الكتابة ، أما بقاء الكتابة فلماله المنتظر ; لأن الدين مال باعتبار ماله ، ولكن لا يحكم بعتقه ما لم يؤد الكتابة وما لم يحكم بعتقه لا يظهر لولده ولاء في جانب أبيه فيكون مولى لموالي الأم فإذا أديت ظهر له ولاء في جانب أبيه فينجز ولاؤه إلى موالي الأب ; لأن الولاء كالنسب ولا يرجع موالي الأم بما عقلوا من جنايته في حياة المكاتب على موالي الأب ; لأنه إنما يحكم بعتق الأب في آخر جزء من أجزاء حياته ولا يستند عتقه إلى أول عقد الكتابة فكان موالي الأم عند جنايته مواليه على الحقيقة .

فلهذا لا يرجعون بما عقلوا على موالي الأب ويرجعون بما عقلوا من جنايته بعد موت الأب قبل أداء كتابته لما بينا أن عتق الأب يستند إلى حال حياته فتبين أن ولاءه كان لموالي الأب من ذلك الوقت وموالي الأم كانوا مجبرين على الأداء فيرجعون بما أدوا كالملاعن إذا كذب نفسه بعد ما جنى الولد وعقل جنايته قوم أمه رجعوا به على قوم الأب ; لأنه تبين ثبوت نسبه من ذلك الوقت ، وإذا مات الولد بعد موت المكاتب قبل خروج الدين فاختصم موالي الأب وموالي الأم في ميراثه قضي به لموالي الأم ; لأنه لم يظهر ولاء في جانب الأب بعد ، وإذا قضي بذلك بطلت المكاتبة ; لأن ولاءه لموالي الأم وقد تقرر عند موته بحكم الحاكم ومن ضرورة بطلان الكتابة إذ لو لم تبطل لكان يؤدي كتابته وتبين به أن ولاءه لقوم الأب فيبطل به حكم الحاكم وذلك ممتنع ولأنه لما لم يكن بد من إبطال أحدهما بالآخر فإبطال الكتابة التي اختلفت الصحابة رضوان الله عليهم في بقائها أولى من إبطال حكم الحاكم ، ولأن السبب المبطل للكتابة وهو عجزه عن الأداء بعد حل المال عليه ظاهر ، والمنفي وهو قدرته بخروج الدين موهوم والظاهر إذا تأيد بحكم الحاكم لا يعتبر الموهوم في مقابلته ، فإن خرج الدين بعد ذلك كان للمولى ; لأنه كسب عبده ، وإن كان للمكاتب ولد ولدوا في الكتابة فقد بقي النجوم ببقائهم فمتى ما خرج دين المكاتب أديت المكاتبة وجر ولاء الولد وولد الولد ; لأنه حكم بحريته مستندا إلى حال حياته وكان ما بقي ميراثا ، وإذا مات المكاتب عن ولد حر فجاء رجل بوديعة فقال هذه للمكاتب فإنه يؤدي منه المكاتبة وتبين بهذه المسألة أن بموته عاجزا لا تنفسخ الكتابة ما لم يقض القاضي بفسخه لجواز أن يظهر له مال أو يتبرع إنسان [ ص: 218 ] بأداء بدل الكتابة عنه وهكذا فسره ابن سماعة رضي الله تعالى عنه في نوادره ثم إقرار الرجل الوديعة للمكاتب صحيح في حقه فيؤدي منه الكتابة ، ولكن لا يصدق على جر الولاء ; لأن إقراره ليس بحجة في حق موالي الأم ولأنه متهم بالقصد إلى إبطال حقهم في جر ولاء الولد

التالي السابق


الخدمات العلمية