الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين

فمن الحوادث فيها وقعة صفين

وذلك أن عليا رضي الله عنه ومعاوية توادعا على ترك الحرب في شهر المحرم طمعا في الصلح ، واختلفت بينهما الرسل ، فلم تنفع .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، ومحمد بن ناصر ، قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا محمد بن أحمد المقدمي ، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، قال: أخبرنا أبو معمر ، قال: حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن مردانية ، قال: حدثني أخي سعيد بن مردانية ، قال: أخبرنا عمرو بن حريث ، قال: قال عدي بن حاتم الطائي: كنا بصفين في يوم حار مع علي رضي الله عنه ، فقصدته وهو في سبعمائة من ربيعة ، فقلت له: ألا تروح إلى القوم ، فإما لنا وإما علينا ، فسكت فلم يجبني ، فقلت: ما لي أراك مخيما ، ألا تروح إلى القوم فإما لنا وإما علينا ، فقال: ادن منا يا ابن حاتم ، فتخطيت الناس إليه حتى وضعت يدي على ركبته ، فقال لي: يا عدي ، إن معاوية مع قوم يطيعونه ، وأنا مع قوم يعصوني ، فأما الذين معي فأشد مكايدة من الذين مع معاوية ، [ ص: 118 ] فعذرته ورحمته رحمة شديدة ما رحمت أحدا مثلها قط .

قال علماء السير: فتناهدوا عند انسلاخ المحرم ، وبات علي رضي الله عنه يعبي الكتائب ، ويقول: لا تقاتلوهم إلا أن يبدءوكم ، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم . وبعث على خيل أهل الكوفة الأشتر ، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف ، وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر ، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم بن عتبة مع ابنه .

وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري ، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري ، وعلى مقدمته أبو الأعور السلمي ، وكان على خيول الشام كلها عمرو بن العاص ، ومسلمة بن عقبة على رجالة أهل دمشق ، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم . وبايع رجال من أهل الشام على الموت ، فعقلوا أنفسهم بالعمائم وكانوا خمسة صفوف .

ثم اقتتلوا فكانوا يتبارزون ، التقوا جميعا في بعض الأيام ، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا إلى الصلاة ، وكثرت القتلى بينهم ، ثم تحاجزوا عند الليل ، ثم أصبحوا على القتال ، وكان علي رضي الله عنه يتقدم حتى إن النبل لتمر بين عاتقه ومنكبه ، وكان معاوية يقول: أردت أن أنهزم ، فذكرت قول ابن الإطنابة ، والإطنابة امرأة من بلقين وهو:


أبت لي عفتي وحياء نفسي وإقدامي على البطل المشيح     وإعطائي على المكروه مالي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح     وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي

فيمنعني هذا القول من الفرار .

وكان عمار يقول: والله لو ضربونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وهم على الباطل . وكان يصيح بعمرو بن العاص: يا عمرو ، بعت دينك بمصر تبا [ ص: 119 ] لك تبا طالما بغيت في الإسلام عوجا . ثم قال لأصحابه: لقد قاتلت صاحب هذه الراية – يعني عمرو بن العاص - ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الرابعة .

وكان علي رضي الله عنه يحمل ويضرب حتى ينثني سيفه ، فقتل عمار ، فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبه ، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا ، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك تقتلك الفئة الباغية" فقال عمرو: أتسمع ما يقول عبد الله ، فقال معاوية: إنك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك ، أو نحن قتلنا عمارا ، إنما قتل عمارا من جاء به .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، [أخبرنا الجوهري ، أخبرنا ابن حيويه ، أخبرنا ابن معروف ، أخبرنا الحسين بن الفهم ، أخبرنا ] محمد بن سعد ، أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال: إني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص ، فقال عبد الله بن عمرو: يا أبه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " ويحك يا ابن سمية ، تقتلك الفئة الباغية" فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ قال: فقال معاوية: ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك ، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به .

قال علماء السير: ولما قتل عمار حمل علي رضي الله عنه وأصحابه ، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض ، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية ، وعلي رضي الله عنه يقول:


أضربهم ولا أرى معاويه     الجاحظ العين العظيم الحاويه

ثم نادى علي: يا معاوية ، علام يقتل الناس بيننا ، هلم أحاكمك إلى الله ، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور ، فقال له عمرو: أنصفك [الرجل] ، فقال معاوية: [ ص: 120 ] إنك تعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله ، قال له عمرو: ما يجمل بك إلا مبارزته ، فقال معاوية: طمعت فيها بعدي . ثم اقتتل الناس ليلة إلى الصباح ، وهي ليلة الهرير ، حتى تقصفت الرماح ، ونفذ النبل ، وصار الناس إلى السيوف ، وأقبل علي رضي الله عنه يسير في الناس ويحرض ، والأشتر في ميمنته ، وابن عباس في الميسرة ، وعلي في القلب ، والناس يقتتلون من كل جانب .

أنبأنا عبد الوهاب الحافظ ، [أخبرنا عاصم بن الحسين ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا عثمان بن أحمد ، أخبرنا ] أبو الحسن بن البراء ، قال: لما ولي علي رضي الله عنه أقام بالمدينة أربعة أشهر ، ثم خرج إلى البصرة ، وكانت وقعة الجمل في سنة ست وثلاثين ، ثم رجع علي إلى الكوفة ، ثم سار إلى صفين ، وكانت الحرب سنتين ، وقتل بصفين سبعون ألفا: خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام ، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق ، منهم خمسة وعشرون بدريا . وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام ، وكان فيه تسعون وقعة ، وفي سنة ثمان وثلاثين التقى الحكمان .

أخبرنا الحافظ بن عبد الوهاب وابن ناصر [قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا ابن حيويه ، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري ، أخبرنا محمد بن أحمد المقدمي ، أخبرنا أحمد بن سعد الزهري ، أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، أخبرنا حماد بن زيد ، عن هشام ، ] عن محمد بن سيرين ، قال: قتل يوم صفين سبعون ألفا ، ما عرفت عدتهم إلا بالقصب ، كان يوضع على كل قتيل قصبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية