الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال وإذا اشترى الرجل جارية فولدت عنده لأقل من ستة أشهر من يوم شرائها فادعى الولد وكذبه المشتري في ذلك لم تصح دعواه في القياس ، وهو قول زفر وصحت دعوته في الاستحسان ، وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله [ ص: 128 ] وجه القياس فيه أن البائع بهذه الدعوى يسعى في نقص ما تم به فلا يقبل ذلك منه كما لو زعم أنه كان أعتقها قبل البيع وكما لو جاءت بالولد لستة أشهر فصاعدا وكما لو مات الولد أو أعتق المشتري الولد ثم ادعى نسبه ، وهذا لأنه مناقض في كلامه فإقدامه على بيعها إقرار منه أنها ليست بأم ولد له ، فإذا زعم بعد ذلك أن الولد ولده وأنها أم ولد له كان مناقضا في ذلك .

والدليل عليه أن البائع لو ادعى نسب هذا الولد لم تصح دعواه باتفاق فلو جعل الحال بعد بيعها كالحال قبله في دعوى البائع فكذلك ينبغي أن يجعل في دعوى أبيه ، وجه الاستحسان أنا تيقنا أن العلوق حصل في ملكه لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر فلما وضعته لأقل من ستة أشهر عرفنا أن العلوق كان حاصلا قبل البيع وحصول العلوق في ملكه يثبت له حق استحقاق النسب بالدعوى وحق استلحاق النسب لا يحتمل الفسخ بحقيقة النسب فلا يبطل ذلك بالبيع وإذا لم يبطل كانت دعواه بعد البيع كدعواه قبله ; وهذا لأن الشيء لا ينقصه ما هو دونه وإنما ينقصه ما هو مثله أو فوقه والملك الثابت للمشتري دون حق استلحاق النسب للبائع ، فهذا يحتمل لرفعه وذلك لا يحتمل فلا ينتقض به بخلاف ما إذا وضعته لستة أشهر فصاعدا فإنا لا نتيقن هناك بحصول العلوق في ملك البائع وثبوت حق استلحاق النسب له والملك للمشتري متيقن به والمتيقن به أقوى مما لا يتيقن فيه وبخلاف ما إذا أعتق المشتري الولد ; لأن ولاءه يثبت للمشتري بالعتق والولاء لا يحتمل النقض لحق استلحاق النسب فينتقض به ما كان من حق استلحاق النسب ; لأن هذا مثله أو فوقه بخلاف ما إذا مات الولد ; لأن حق استلحاق النسب لمنفعة الولد وحاجته إلى النسب ، وهو بالموت قد استغنى عن ذلك ، وهو بخلاف ما لو ادعاه أبو البائع ; لأنه بمجرد حصول العلوق في ملك البائع لا يثبت لابنه حق استلحاق النسب إلا بشرط ، وهو ولاية نقلها إلى نفسه .

ألا ترى أن حق الدعوى لا يثبت للجد حال حياة الأب ويثبت له بعد موت الأب ; لأن ولايته بعد موت الأب ، وهذا الشرط لا يوجد فيه بعد البيع ; لأنها صارت مملوكة للمشتري فليس للأب ولاية نقلها إلى نفسه بالدعوى ; فلهذا تصح دعواه ثم التناقض لا يمنع صحة استلحاق النسب ، ألا ترى أن الملاعن إذا كذب نفسه يثبت النسب منه ، وهو مناقض في ذلك ، وهو لخفاء أثر العلوق وقد يظن في الابتداء أنها لم تعلق منه فيبيعها ثم يتبين أنها علقت منه فيستدرك ذلك بدعوى النسب وحكم الحاكم باللعان وقطع النسب أقوى منه في بيعه إياها ، فإذا [ ص: 129 ] جاز إبطال حكم الحاكم بدعوى النسب وإن كان هو ساعيا في نقض ما تم به فلأن يجوز إبطال البيع أولى ، وإن ادعاه المشتري أولا ثم ادعاه البائع لم تصح دعوى البائع ; لأن نسبه قد ثبت من المشتري فاستغنى به الولد عن النسب ; ولأن النسب الذي يثبت من المشتري لا يحمل النقض فهو أقوى من الولاء الثابت له بالعتق ، وقد بينا أن اعتبار الولاء يبطل حق الاستلحاق الثابت للبائع فاعتبار النسب أولى .

وإن ادعياه معا فإنه يثبت نسبه من البائع وتصير أم ولد للبائع وينتقض البيع فيها عندنا قال إبراهيم النخعي يثبت نسبه من المشتري ; لأن للمشتري فيها حقية الملك وللبائع حق الملك وصاحب حقية الملك يترجح في الدعوى كما لو ولدت جارية رجل فادعى الولد هو وأبوه صحت دعوى المولى دون أبيه لهذا المعنى ولكنا نقول دعوى البائع سابقة معنى ; لأنها تستند إلى وقت العلوق فإن العلوق حصل في ملكه ودعوى المشتري لا تستند إلى تلك الحالة ; لأنه يملكها بعد ذلك ، ولو سبق البائع بالدعوى كان النسب ثابتا منه فكذلك إذا سبقت معنى بخلاف مسألة الأب لأن دعوى كل واحد منهما هناك تستند إلى ما تستند إليه دعوى الآخر إلا أن شرط دعوى الأب نقلها إليه ولا يمكن اتحاد هذا الشرط إذا اقترنت دعوى المولى بدعواه ، يوضح ما قلنا أن دعوى المشتري دعوى التحرير ; لأن العلوق لم يكن حاصلا في ملكه ودعوى التحرير كالإعتاق أما دعوى البائع فدعوى استيلاء ولأن العلوق كان في ملكه فيجعل هذا بمنزلة ما لو ادعاه وأعتقه المشتري معا فتكون دعوى البائع أولى وأما إذا ولدته لأكثر من ستة أشهر فادعياه معا فدعوى المشتري أولى لأنا لن نتيقن بحصول العلوق في ملك البائع هنا ، ولو انفرد بالدعوى لم يصح إذا لم يصدقه المشتري ، فإذا اقترنت دعوى المشتري بدعوى البائع فأولى أن لا تصح دعوى البائع .

التالي السابق


الخدمات العلمية