الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : وإذا اشترى جارية فلم يقبضها حتى زوجها رجلا كان النكاح جائزا ; لأن ولاية التزويج تثبت بملك الرقبة ، والملك حصل للمشتري بنفس العقد والتزويج من التصرفات التي لا يمتنع صحتها لأجل الغرر ألا ترى أن تزويج الآبقة والرضيعة يجوز فكان التزويج نظير العتق وإعتاق المشتري قبل القبض صحيح فكذلك تزويجه ولهذا يجوز من الراهن تزويج الجارية المرهونة كما ينفذ عتقه ثم في القياس يصير المشتري قابضا بنفس التزويج وهو رواية عن أبي يوسف حتى إذا هلكت بعد ذلك فهو من مال المشتري ; لأن التزويج عيب فيها والمشتري إذا [ ص: 178 ] عيب المعقود عليه يصير به قابضا أو يجعل التزويج كالإعتاق أو التدبير فكما يصير المشتري قابضا بذلك فكذلك بالتزويج ولكنه استحسن فقال لا يكون قابضا لها بنفس التزويج حتى إذا هلكت فهي من مال البائع ; لأنه لم يتصل من المشتري فعل بها وإنما التزويج عيب من طريق الحكم على معنى أنه تقل رغائب الناس فيها وينتقص لأجله الثمن فهو في معنى نقصان السعر أو التزويج لما كان عيبا من طريق الحكم فهو نظير الإقرار عليه بالدين .

والمشتري لو أقر عليها بدين لا يصير قابضا لها بخلاف العيب الحسي فذلك باعتبار فعل يتصل من المشتري بعينها وهو إتلاف لجزء من عينها فأما أن يصير قابضا لما بقي بالتخلي بها أو لأن المشتري لا يتمكن من قبض البعض دون البعض فمن ضرورة كونه قابضا لما أتلف أن يكون قابضا لما بقي منه وبه يفرق بين قبض المشتري واسترداد البائع فالبائع يملك استرداد البعض ليحبسه بالثمن دون القبض فلا يجعل بتفويت البعض مستردا لما بقي وهذا بخلاف الإعتاق ; لأنه إنهاء للملك وإتلاف للمالية ولهذا يثبت به الولاء فمن ضرورته أن يصير قابضا والتدبير نظير العتق في استحقاق الولاء وثبوت حق الحرية للمدبرة فإن وطئها الزوج ثم ماتت بعد ذلك ماتت من مال المشتري إن نقصها الوطء أو لم ينقصها ; لأن الزوج إنما وطئها بتسليط المشتري إياه على ذلك فيكون فعله كفعل المشتري ، ولو كان المشتري هو الذي وطئها بنفسه ثم ماتت فعليه جميع ثمنها ; لأنه بالوطء قد تخلى بها والوطء بمنزلة إتلاف جزء منها فكذلك إذا وطئها الزوج بتسليط المشتري وإن كان البائع منعها من المشتري بعد وطء المشتري أو الزوج إياها ولم ينقصها الوطء شيئا ثم ماتت فلا شيء على المشتري من الثمن ولا من العقر ; لأن البائع صار مستردا لها بحبسه إياها بالثمن ومنع المشتري منها ولم يتلف بالوطء شيئا من ماليتها ; لأن المستوفي بالوطء وإن كان في حكم جزء من عينها فذلك جزء ليس بمال والثمن بمقابلة ما هو مال فلهذا لا يتقرر على المشتري شيء من الثمن ولا عقر عليه ; لأنه وطئها في ملكه ووطء الإنسان في ملك نفسه لا يلزمه العقر .

وإن كانت بكرا أو كان الوطء نقصها لم ينظر إلى العقر ولكن ينظر إلى ما ينقصها الوطء فيكون عليه حصة من الثمن ; لأنه فات جزء من ماليتها بفعل المشتري فيتقرر عليه حصة ذلك من الثمن كما لو فقأ المشتري عينها ثم استردها البائع فهلكت ; وهذا لأن البكارة في حكم جزء من المالية ولهذا يصير مستحقا بالبيع إذا اشترط فبوطء المشتري إن [ ص: 179 ] كانت بكرا يفوت جزء من المالية وقد بينا أن الوصف الذي هو مال يقابله حصة من الثمن إذا صار مقصودا بالتناول وإذا كان البائع هو الواطئ لم ينظر إلى العقر ولكنه ينظر إلى النقصان فإن كان لم ينقصها شيئا أخذها المشتري بجميع الثمن وإن كان نقصها شيئا حط عنه حصة النقصان وأخذها بما بقي من الثمن في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا لم ينقصها الوطء يقسم الثمن على العقر والقيمة فيسقط حصة العقر من الثمن عن المشتري فإن نقصها الوطء ينظر إلى الأكثر من العقر ومن النقصان فيقسم الثمن عليه وعلى قيمتها ويبطل على المشتري حصة ذلك الثمن ويأخذها بحصة القيمة من الثمن ; لأنها بالعقر صارت مملوكة للمشتري فوطء البائع حصل في ملك الغير والوطء في ملك الغير لا ينفك عن حد أو عقر وقد سقط الحد للشبهة فيجب العقر .

ولكن لا يمكن استيفاء العقر من البائع ; لأنها في ضمانه بالثمن فيعتبر العقر لإسقاط حصته من الثمن وهذا ; لأن الوطء في ملك الغير بمنزلة الجناية فكما أن جناية البائع عليها قبل التسليم تعتبر في إسقاط حصة من الثمن لا في إيجاب الضمان فكذلك وطؤه إياها إلا أنها إذا كانت بكرا فالممكن هنا اعتبار معنى نقصان البكارة والعقر بسبب الوطء ولكن يتعذر الجمع بينهما بسبب فعل واحد فيدخل الأقل في الأكثر ويعتبر الانقسام على القيمة وعلى الأكثر منهما وأبو حنيفة رحمه الله يقول : الجارية قبل التسليم في ضمان البائع وقد جعل ذلك في حكم ضمان الفعل بمنزلة حقيقة الملك ، ألا ترى أنه لا يلزمه بالجناية أرش ولا بالوطء عقر يستوفى منه فكما أن وطأه إياها لو حصل في حال قيام ملكه فيها لم يكن موجبا للعقر أصلا فكذلك إذا حصل في ضمان ملكه ; وهذا لأن المستوفى بالوطء في حكم جزء من العين كما قال ولكنه جزء ليس بمال ، فإذا لم يمكن نقصانا في ماليتها ، والثمن بمقابلة المالية لا يمكن إسقاط شيء من الثمن باعتباره وبه فارق الجناية فإنه يمكنه نقصانا في المالية نقول : إنه يسقط بحصة ذلك النقصان من الثمن يوضحه أن الجارية في حكم الوطء إنما تصير مملوكة للمشتري بالقبض وقبل القبض هي كالمملوكة للبائع في حكم ضمان الوطء ولهذا لا يحتسب بالحيضة التي توجد في يد البائع من استبراء المشتري وأن المشتري لو زوجها ثم قبضها لم يكن عليه أن يستبرئها إذا طلقها الزوج فوطء البائع إياها قبل التسليم من هذا الوجه بمنزلة وطئه إياها قبل البيع وبهذا الطريق .

قال أبو حنيفة لا خيار للمشتري أيضا بمنزلة ما لو وطئها البائع قبل [ ص: 180 ] القبض ولم ينقصها الوطء ثم علم المشتري بذلك لم يكن له فيها خيار وإن كانت بكرا فنقصها الوطء ثبت الخيار للمشتري لفوات جزء من المالية بمنزلة ما لو ذهبت البكارة من غير صنع أحد يوضحه أن المستوفي بالوطء في حكم جزء هو ثمرة ; لأنه من حيث الصورة استيفاء منفعة والمنفعة تحدث شيئا فشيئا فإتلاف البائع جزءا مما هو ثمرة لا يثبت الخيار للمشتري عند أبي حنيفة إذا لم يتمكن نقصان في مالية العين كإتلاف ولد الشاة وثمرة الأشجار ، فإذا لم يمكن نقصانا في العين ثبت الخيار للمشتري لأجله كما لو ولدت الجارية فأتلف البائع ولدها وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله فيما إذا كانت بكرا تخريجا هو ألطف من هذا فقال ينظر إلى نقصان البكارة من الثمن أولا على نقصان البكارة وعلى قيمتها فيسقط نقصان البكارة من الثمن ثم يقسم ما بقي من الثمن على قيمتها وعلى ما بقي من العقر فسقط حصة العقر من الثمن وبيانه إذا اشتراها بمائة وقيمتها مائة ونقصان البكارة عشرون والعقر أربعون فإنه يسقط أولا باعتبار نقصان البكارة عشرين درهما ثم يقسم ما بقي من الثمن وذلك ثمانون درهما على قيمتها وهي ثمانون وعلى ما بقي من العقر وهو عشرون فيقسم أخماسا بأن يجعل كل عشرين سهما فيسقط عنه خمس ما بقي وذلك ستة عشر درهما وإنما يأخذها بما بقي وذلك أربعة وستون درهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية