الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال أمة بين رجلين باع أحدهما كلها وسلم الآخر البيع بعدما حاضت عند المشتري حيضة فعليه أن يستبرئها بعد جواز البيع كله ; لأن ملك الحل لا يثبت له ما لم يملك جميع رقبتها وذلك بعد إجازة البيع ، وكذلك لو باع أمة رجل بغير إذنه فقبضها المشتري وحاضت عنده حيضة ثم أجاز المولى البيع كان عليه أن يستبرئها ; لأن ملك الحل إنما يثبت له بعد إجازة المالك البيع عندنا ، وأصل المسألة أن بيع الفضولي يتوقف على إجازة المالك عندنا ويجعل إجازته في الانتهاء كالإذن في الابتداء .

وعند الشافعي لا يتوقف بل يلغو بيع مال الغير بغير إذن المالك ، وكذلك كل ماله مجيز حال وقوعه من العقود والفسخ والنكاح والطلاق فهو على هذا الخلاف واحتج الشافعي بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ومطلق النهي يوجب فساد المنهي عنه والفاسد من العقود عنده غير مشروع { ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض } فكون بيع ما يقبض ولم يملك منهيا عنه أولى والمعنى فيه أن تصرفه صادف محلا لا ولاية له على ذلك المحل فيلغو كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء فإنه لا ينعقد وإن أخذه بعد ذلك وهذا لأن انعقاد العقد يستدعي محلا ويختص بمحل للعاقد عليه ولاية ، فإذا انعدمت الولاية على المحل ينزل ذلك منزلة انعدام الأهلية في المتصرف عند العقد وذلك يوجب إلغاءه كالصبي والمجنون إذا طلق امرأته يلغو ذلك ولا ينعقد وإن أجازه بعد البلوغ فكذلك هذا وهذا بخلاف قول المشتري قبل إيجاب البائع قد اشتريت منك بكذا فإن ذلك تصرف في ذمة نفسه بالتزام الثمن إذا أوجب البائع البيع وهو محل ولايته والدليل عليه أن المشتري إذا باع المبيع قبل القبض ثم قبضه لا ينفذ ذلك البيع ، وكذلك له إجازة البائع لانعدام ولاية العاقد على المحل يدا ، وكذلك لو باع الآبق ثم رجع من إباقه لم ينفذ ذلك البيع ، فإذا انعدمت ولايته ملكا ويدا على المحل أولى ، وكذلك لو باع مال الغير ثم اشتراه من المالك أو ورثه يبطل البيع ولا ينفذ فإذا لم يجز أن ينفذ هذا العقد من جهة العاقد باعتبار ملكه فلأن لا ينفذ من جهة غيره بإجازته أولى وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { دفع إلى حكيم بن حزام [ ص: 154 ] دينارا وأمره أن يشتري له أضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال بارك الله لك في صفقتك فأما الشاة فضح بها وأما الدينار فتصدق به } فقد باع ما اشترى له بغير أمره ثم أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعه ولا يجوز أن يقال كان هو وكيلا مطلقا بالبيع والشراء ; لأن هذا شيء لا يمكن إثباته بغير نقل ، ولو كان النقل على سبيل المدح له فالمنقول أمره أن يشتري له أضحية وبهذا لا يصير وكيلا بمطلق التصرف .

{ ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا إلى عروة البارقي رضي الله عنه وأمره أن يشتري أضحية فاشترى بالدينار شاتين ثم باع إحداهما بدينار وجاء بالأخرى مع الدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجوز عليه الصلاة والسلام ذلك ودعا له بالخير } ، ولو لم يكن البيع موقوفا على إجازته لأمره بالاسترداد والمعنى فيه أن هذا تصرف صدر من أهله في محله فلا يلغو كما لو حصل من المالك وكالوصية بالمال ممن عليه الدين وبأكثر من الثلث ممن لا دين عليه ; وهذا لأن التصرف كلام وهو فعل اللسان فحده ما هو حد سائر الأفعال وتحقيق الفعل ينتقل من فاعل في محل ينفعل فيه فهذا يكون حد التصرف باللسان ، وإذا صدر من أهله في محله تحقق به وجوده ثم قد يمتنع نفوذه شرعا لمانع فيتوقف على زوال ذلك المانع وبالإجارة يزول المانع وهو عدم رضى المالك به وبيان الأهلية في التصرف أن التصرف كلام والأهلية للكلام حقيقة بالتميز واعتباره شرعا بالخطاب وبيان المحلية أن البيع تمليك مال بمال فالمحل إنما يكون محلا بكونه مالا متقوما وبانعدام الملك للعاقد في المحل لا تنعدم المالية والتقوم ألا ترى أنه لو باعه بإذن المالك جاز وما ليس بمحل فبالإذن لا يصير محلا ، ولو باعه المالك بنفسه جاز والمحلية لا تختلف بكون المتصرف مالكا أو غير مالك .

فإذا قبل اعتبار التصرف شرعا لحكمه لا لعينه والمراد بالأسباب الشرعية أحكامها واشتراط الملك في المحل لأجل الحكم فالتمليك لا يتحقق إلا من المالك ، فإذا لم يكن المتصرف مالكا لغا تصرفه لانعدام حكمه ففي الجواب عن هذا السؤال طريقان : أحدهما : أن نقول لا نسلم أن الحكم لا يثبت لهذا التصرف بل يثبت حكم يليق بالسبب فإنه يثبت بالسبب الموقوف ملك الموقوف كما يثبت بالسبب البات ملك بات ولهذا لو أعتق المشتري ثم أجاز المالك البيع نفذ عتقه وهذا ; لأنه لا ضرر على المالك في إثبات ملك موقوف بهذا السبب كما لا ضرر عليه في انعقاد السبب وإنما الضرر في زوال ملكه وبالملك الموقوف لا يزول ملكه [ ص: 155 ] البات ، والثاني : أن السبب إنما يلغو إذا خلا عن الحكم شرعا فأما إذا تأخر عنه الحكم فلا ; لأن الحكم تارة يتصل بالسبب وتارة يتأخر كما في البيع بشرط الخيار وهنا الحكم يتأخر إلى إجازة المالك ولا ينعدم أصلا ; لأن انعدام الحكم في الحال لرفع الضرر عن المالك وفي تأخير الحكم إلى وجود الإجازة توفر المنفعة عليه فإنه إذا صار مستندا بالنظر إن شاء أجاز البيع وإن شاء أبطله فيكون فيه محض منفعة له فلهذا انعقد السبب في الحال على أن يجعل إجازته في الانتهاء كإذنه في الابتداء بخلاف بيع الطير في الهواء والسمك في الماء فهناك لغا العقد لانعدام محله والمحل غير مملوك أصلا ولا يكون قابلا للتمليك ، وكذلك طلاق الصبي امرأته إنما لغا لانعدام الأهلية في المتصرف فإن اعتبار عقل الصبي وتميزه لتوفير المنفعة .

وما يتمحض ضررا ينعدم فيه هذا المعنى ولا يجعل أهلا باعتباره ودليل أن الطلاق يتمحض ضررا أن الولي لا يملك عليه هذا التصرف وإنما لغا لانعدام حكمه أصلا فامرأة الصبي ليست بمحل لوقوع الطلاق بالإيقاع ، ألا ترى أنه لا يقع عليها بإذن الولي ولا بإيقاعه فأما مال الغير فمحل الحكم البيع حتى يثبت فيه حكم البيع عند إذن المالك أو مباشرته بنفسه وهذا بخلاف بيع الآبق والمبيع قبل القبض فإن ذلك لا يصير لغوا بل ينعقد فاسدا لانعدام شرط الصحة وهو قدرة العاقد على تسليم المعقود عليه وبخلاف ما إذا اشترى العاقد ما باعه ; لأن حكم ذلك السبب لا يمكن إثباته باعتبار الملك الحادث له فحكم السبب ثبوت الملك المشترى من وقت العقد وإنما يتأتى ذلك باعتبار ملك من كان مالكا وقت العقد وقد زال ذلك بإزالته فلو نفذ باعتبار الملك الحادث نفذ مقصودا على الحال وحكم السبب ليس هذا فأما عند الإجازة فيثبت الملك للمشتري من وقت العقد ولهذا يستحق المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة وهذا هو تأويل النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أن المراد إذا باعه ثم اشتراه وأراد تسليمه بحكم ذلك العقد بدليل قصة الحديث فإن { حكيم بن حزام رضي الله عنه قال يا رسول الله إن الرجل ليأتيني فيطلب مني سلعة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فأشتريها فأسلمها فقال صلى الله عليه وسلم لا تبع ما ليس عندك } إذا عرفنا هذا في بيان مسألة الاستبراء فالملك النافذ للمشتري لا يكون إلا بعد الإجازة والحل يبني على ذلك ولا يحتسب بالحيضة التي توجد قبل الإجازة من الاستبراء فتلك دون الحيضة الموجودة في يد البائع بعد تمام البيع ، فإذا كان لا يحتسب بها من الاستبراء فهذا أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية