الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
550 - وأنا القاضي أبو العلاء الواسطي ، نا محمد بن أحمد بن موسى البابسيري ، حدثنا أبو أمية القاضي ، نا أبي ، نا سعيد بن أبي زنبر ، عن مالك بن أنس ، قال : سمعت ربيعة ، يقول : " أنزل الله كتابه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وترك فيه موضعا لسنة نبيه ، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السنن وترك فيها موضعا للرأي " .

قد أوردنا من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن أصحابه ما يدل على صحة الحكم بالقياس ، وفساد قول داود بن علي ومن وافقه .

فأما احتجاجه بقول الله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )

فالجواب عنه ، أن الحكم بالقياس معلوم ، وهو بمنزلة الحكم بشهادة الشاهدين إذا غلب على ظن الحاكم عدالتهما وصدقهما ، وبمنزلة التوجه إلى الكعبة ، إذا غلب على ظنه أنها في جهة ، فإن وجوب الحكم بها وفعل الصلاة إليها معلوم ، على أن ما ذكرناه من السنة أخص من ذلك ، فوجب أن يقضى به عليه .

وأما الجواب عن حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا عملوا بالرأي فقد ضلوا " ، وحديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 502 ] : " من قال في ديننا برأيه فاقتلوه " ، فهو : أن المراد به الرأي المخالف لكتاب الله أو سنة رسول الله ومن فعل ذلك فقد ضل .

وكذا الجواب عن حديث عوف بن مالك ، وعائشة أم المؤمنين في القياس ، وأن المراد به القياس المخالف للكتاب أو السنة .

وأما الجواب عن حديث عمر ، فهو : أن المراد به الرأي المخالف للحديث ، لأنه قال : " أعيتهم السنة أن يحفظوها ، ونسوا الأحاديث أن يعوها " ، وقال : " هم أعداء السنن " ، وليس هذه صفة من جعل السنن أصلا يقيس عليها .

وكذلك قول علي : " لو كان الدين بالقياس " ، المراد به مخالفة السنة ، ومثله قول ابن مسعود وابن عباس .

والدليل على ذلك ، ما قدمنا روايته عنهم في القول بالرأي والعمل به ، وعلى هذا يحمل قول مسروق والشعبي ، وغيرهما ممن ذم الرأي ، بدليل ما رويناه من إجازته وتصحيح العمل به .

وقول جعفر بن محمد " إن أول من قاس إبليس " صحيح ، وذلك [ ص: 503 ] أن الله تعالى أمره بالسجود لآدم ، فقاس ليدفع بقياسه ما أمره الله به نصا ، فقال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، فجعل قوة النار على الطين دليلا على أن الأضعف حكمه أن يخضع للأقوى ، وأن آدم أولى بالسجود له ، فوضع القياس في غير موضعه ، فكان ذلك فاسدا ، لمخالفة النص ومفارقة الدلالة .

وأما قول داود : إن المقصود بالقياس ، إثبات الحكم فيما لا نص فيه ، وكل حكم قد تناوله النص عندنا .

فالجواب عنه ، أنا نعلم خطأ هذا القول ضرورة ، لوجودنا أحكاما كثيرة لا نص فيها .

فإن قال : اذكر بعضها قيل له : من ترك الصلاة متعمدا وجب عليه قضاؤها ، ولا نص فيه ، وإنما قيس على من نسيها أو نام عنها ، وقتل الزنبور في الحل والحرم ليس فيه نص ، وإنما قيس على العقرب ، وإذا مات سنور في السمن ، ليس فيه نص ، وإنما قيس على الفأرة تموت في السمن ، وما أشبه ذلك كثير .

وأما المسائل الغامضة ، فأكثر من أن تحصى ويطول ذكرها في هذا الكتاب ، على أنه ليس من شرط القياس ، أن يكون النص معدوما ، وإنما من شرطه أن لا يكون مخالفا للنص ، فإذا لم يكن مخالفا للنص صح القياس ، مع وجود النص ، ومع عدمه .

[ ص: 504 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية