الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(51) الحادي والخمسون من شعب الإيمان " وهو باب في الحكم بين الناس "

قال الله عز وجل : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) .

وقال : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) .

وقال في صفة نفسه : ( قائما بالقسط ) .

وقال : ( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) .

إلى غير ذلك من الآيات التي أمر فيها بالعدل في الحكم ، والكيل ، والميزان ، والشهادة . قال : فوصف جل ثناؤه بالقسط وهو العدل ، وأمر عباده به ، ووصاهم فيما يتعاملون به بملازمته ، والانتهاء [ إلى ما توجبه آلة العدل الموضوعة بينهم من المكيال ، والميزان ، فثبت بهذا ] كله أن العدل بين الناس في الأحكام وعامة المعاملات من فرائض الدين ، فأما ما اتصل منه بغير الحكم فالناس كلهم مأمورون بأن ينصف بعضهم بعضا من نفسه ، فلا الطالب يطلب ما ليس له ، ولا المطلوب يمنع ما عليه بعد أن كان قادرا على أن يعفو به .

وأما ما اتصل منه بالحكم فجملته أن الحاكم لا ينبغي له أن يتبع هواه ، ولا يتعدى الحق إلى ما سواه ، كما قال الله عز وجل لداود عليه السلام : [ ص: 31 ] ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) .

فإن الحاكم ليس رجلا خص من بين الناس ، فقيل له : احكم بما شئت ، فإن هذا لم يكن لملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وإنما اؤتمن على حكم الله - تعالى جده - ليفصل بين عباده به ، وتحمل المختلفين عليه فكل ما قاله بين الخصمين مما ليس بحكم لله - عز وجل - فهو مردود عليه ، وهو فيه أسوأ حالا ممن قاله وهو غير حاكم ، لأنه اؤتمن فخان ، وكذب على الله - جل ثناؤه - واختيان الأمانة نفاق ، والكذب على الله شقاق ، والله تعالى يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) .

ويقول : ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) .

قال : وينبغي للإمام ألا يولي الحكم بين الناس إلا من جمع إلى العلم السكينة والتثبت ، وإلى الفهم الصبر والحلم ، وكان عدلا أمينا ، نزها عن المطاعم الدنية ، ورعا عن المطامع الرديئة ، شديدا قويا في ذات الله ، متيقظا متحفظا من سخط الله ، ليس بالنكس الخوار فلا يهاب ، ولا بالمتعظم الجبار ، فلا ينتاب ، لكن وسطا خيارا ، ولا يدع الإمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته ، والتعرف بحاله وطريقته ، [ ويقابل منه ما يجب تغييره بعاجل التغيير ، وما يجب تقريره بأحسن التقرير ] ، ويرزقه من بيت المال إن لم يجد من يعمل بغير رزق ما يعلم أنه يكفيه ، ويقوي مما ولاه يده ، ويشد أزره ، وبسط الكلام فيه إلى أن قال : ويتوقى أن يقال في ولايته : هذا حكم الله ، وهذا حكم الديوان ، فإن هذا من قائله إشراك بالله ، إذ لا حكم إلا لله ، قال الله عز وجل : ( ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) .

كما قال : ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) .

وقال : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) [ ص: 32 ] إلى غير ذلك من الآيات التي وردت في معناه ، وقد وردت في تقلد القضاء آثار تزهد فيه ، بل توجب التحرز والفرار منه ، وهي محمولة على تعظيم أمر القضاء ، والدلالة على خطره ورفعة قدره ، لا على الكراهة له من طريق أن فيه قبحا ، أو مأثما ، أو سقاطة ، وأن من فر منه فلإشفاقه من ألا يقوم بحقه .

قال الإمام أحمد رحمه الله : فمن علم من نفسه ما لا يمكنه القيام معه بحقه فلا ينبغي له أن يتعرض للشروع فيه ، ومن علم من نفسه أنه يصلح له فينبغي له أن يشاور فيه أهل العلم والفضل والأمانة ممن خبره ويبطن حاله وأمره على نفسه ؛ ليخبروه عن نفسه بما لعله يخفى عليه . وبسط الحليمي الكلام فيه وفي غيره .

وقد ذكرنا ما ورد في كل فصل من فصوله من الأخبار ، والآثار في كتاب آداب القاضي من " كتاب السنن " من أراد الوقوف عليه رجع إليه إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية