الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر انهزام المشركين

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر - رحمه الله تعالى - لما نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار كروا راجعين فجعلوا يقولون : يا بني عبد الرحمن ، يا بني عبد الله ، يا بني عبيد الله ، يا خيل الله .

                                                                                                                                                                                                                              وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سمى خيله خيل الله ، وجعل شعار المهاجرين : بني عبد الرحمن ، وجعل شعار الأوس : بني عبيد الله ، وشعار الخزرج : بني عبد الله .


                                                                                                                                                                                                                              روى محمد بن عمر عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة : أن سعد بن عبادة جعل يصيح يومئذ : يا للخزرج ثلاثا ، وأسيد بن الحضير يصيح : يا للأوس - ثلاثا فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل تأوي إلى يعسوبها ، قال أهل المغازي فحنق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذراري المشركين . فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : «ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية ، ألا لا تقتل الذرية” ثلاثا - فقال أسيد بن الحضير : يا رسول الله ، أليس إنما هم أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أليس خياركم أولاد المشركين! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو ينصرانها” .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر : قال شيوخ ثقيف ، ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبنا ، فيما نرى [ ص: 332 ] - ونحن مولون حتى إن الرجل منا ليدخل حصن الطائف وإنه ليظن أنه على أثره ، من رعب الهزيمة .

                                                                                                                                                                                                                              قال أنس بن مالك كما رواه الإمام أحمد : كان في المشركين رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل ، فهزمهم الله - تعالى - فولوا ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى الفتح ، فجعل يجاء بهم أسارى رجل رجل ، فيبايعونه على الإسلام ، فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن علي نذرا لئن جيء بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجيء بالرجل فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا نبي الله تبت إلى الله ، فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مبايعته ليوفي الآخذ بنذره ، وجعل ينظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأمره بقتله ، وهاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم الرجل لا يصنع شيئا بايعه ، فقال : يا رسول الله نذري ؟ قال : «لم أمسك عنه إلا لتوفي بنذرك” فقال : يا رسول الله ألا أومأت إلي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه ليس لنبي أن يومئ .

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : وهزم الله تعالى أعداءه من كل ناحية ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ، وغنمهم الله - تعالى - نساءهم وذراريهم وأموالهم ، وفر مالك بن عوف حتى بلغ حصن الطائف . هو وأناس من أشراف قومه ، وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله - تعالى - رسوله وإعزاز دينه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : ولما هزم الله تعالى المشركين من أهل حنين ، وأمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، قالت امرأة من المسلمين - رضي الله عنها - وعنهم :


                                                                                                                                                                                                                              قد غلبت خيل الله خيل اللات والله أحق بالثبات

                                                                                                                                                                                                                              ويروى : وخيله أحق بالثبات .

                                                                                                                                                                                                                              زاد محمد بن عمر :


                                                                                                                                                                                                                              إن لنا ماء حنين فخلوه     إن تشربوا منه فلن تعلوه

                                                                                                                                                                                                                              هذا رسول الله لن تغلوه

                                                                                                                                                                                                                              ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهة المشركين بعد انهزامهم إلى العسكر ، وأمر أن يقتل كل من قدر عليه ، وثاب من انهزم من المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                              روى البزار بسند رجاله ثقات عن أنس - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين : «اجزروهم جزرا” وأومأ بيده إلى الحلق . [ ص: 333 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر : وذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا كان بحنين قاتل قتالا شديدا ، حتى اشتدت به الجراح ، قال : «إنه من أهل النار” فارتاب بعض الناس من ذلك ، ووقع في قلوب بعضهم ما الله تعالى به أعلم ، فلما آذته جراحته ، أخذ مشقصا من كنانته فانتحر به ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن ينادي : ألا لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، أن الله - تعالى - يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر” .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر : وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطلب العدو وقال لخيله إن قدرتم على «بجاد” رجل من بني سعد بن بكر فلا يفلتن منكم ، وقد كان أحدث حدثا عظيما ، كان قد أتاه رجل مسلم فأخذه فقطعه عضوا عضوا ثم حرقه بالنار ، وكان قد عرف جرمه فهرب فأخذته الخيل فضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ، أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ، وأتعبوها في السياق ، فتعبت الشيماء بتعبهم ، فجعلت تقول : إني والله أخت صاحبكم ، فلا يصدقونها ، وأخذها طائفة من الأنصار ، وكانوا أشد الناس على هوازن - فأتوا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا محمد!! إني أختك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وما علامة ذلك ؟ فأرته عضة بإبهامها ، وقالت : عضة عضضتنيها وأنا متوركتك بوادي السرر ونحن يومئذ نرعى البهم ، وأبوك أبي ، وأمك أمي ، وقد نازعتك الثدي ، وتذكر يا رسول الله حلابي لك عنز أبيك أطلان ، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلامة ، فوثب قائما ، فبسط رداءه ، ثم قال : «اجلسي عليه” ورحب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن أمه وأبيه ، فأخبرته بموتهما فقال : «إن أحببت فأقيمي عندنا محببة مكرمة ، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك” قالت : بل أرجع إلى قومي ، فأسلمت ، فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أعبد وجارية وأمر لها ببعير أو بعيرين وقال لها : «ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك ، فأنا أمضي إلى الطائف” فرجعت إلى الجعرانة ، ووافاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة فأعطاها نعما وشاء ، ولمن بقي من أهل بيتها ، وكلمته في بجاد أن يهبه لها ويعفو عنه ففعل - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية