الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأن أبا سفيان سيقدم ليجدد العهد فكان كما أخبر

                                                                                                                                                                                                                              روى محمد بن عمر عن حزام بن هشام عن أبيه - رحمهما الله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال : «لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول : جدد العهد وزد في الهدنة ، وهو راجع بسخطه” .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الرزاق عن نعيم مولى ابن عباس ، وابن أبي شيبة عن عكرمة ، ومحمد بن عمر عن شيوخه ، واللفظ له : أن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة مشيا إلى أبي سفيان بن حرب ، فقالا : هذا أمر لا بد له من أن يصلح ، والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه ، فقال أبو سفيان : قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها .

                                                                                                                                                                                                                              وخفت من شرها ، قالوا : وما هي ؟ قال : رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ، ثم كأن ذلك الدم لم يكن ، فكره القوم الرؤيا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو سفيان لما رأى ما رأى من الشر : هذا والله أمر لم أشهده ، ولم أغب عنه ، لا يحمل هذا إلا علي ، ولا والله ما شوورت فيه ، ولا هويته حين بلغني ، والله ليغزونا محمد إن صدقني ظني ، وهو صادقي ، وما بد من أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد . فقالت قريش : قد والله أصبت ، وندمت قريش على ما صنعت من عون بني بكر على خزاعة ، وتحرجوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدعهم حتى يغزوهم . فخرج أبو سفيان ، وخرج معه مولى له على راحلتين ، فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي بديل بن ورقاء بعسفان ، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان اليقين عنده ، فقال للقوم : أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها ؟ قالوا : لا علم لنا بها ، فعلم أنهم كتموه ، فقال : أما معكم من تمر يثرب شيء تطعموناه ، فإن لتمر يثرب فضلا على تمور تهامة . [ ص: 206 ]

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : لا . فأبت نفسه أن تقره حتى قال : يا بديل : هل جئت محمدا ؟ قال : لا ما فعلت ، ولكن سرت في بلاد بني كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم فأصلحت بينهم . فقال أبو سفيان : إنك - والله - ما علمت بر وأصل ، ثم قايلهم أبو سفيان حتى راح بديل وأصحابه ، فجاء أبو سفيان منزلهم ففت أبعار أباعرهم فوجد فيها نوى من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير ، فقال أبو سفيان : أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا .

                                                                                                                                                                                                                              وكان القوم لما كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم فساروا ثلاثا ، وخرجوا من ذلك اليوم فساروا إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثا ، وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في داري بديل ورافع ثلاثة أيام يكلمون فيهم ، وائتمرت قريش في أن يخرج أبو سفيان ، فأقام يومين . فهذه خمس بعد مقتل خزاعة ، وأقبل أبو سفيان حتى دخل المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطوته دونه . فقال : يا بنية!! أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ مشرك نجس ، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا بنية لقد أصابك بعدي شر ، فقالت : بل هداني الله للإسلام . وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها ، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام ، وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر ؟ فقام من عندها ،

                                                                                                                                                                                                                              فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد ، فقال : يا محمد!! إني كنت غائبا في صلح الحديبية فاشدد العهد ، وزدنا في المدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فلذلك جئت يا أبا سفيان ؟ ” قال : نعم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل كان من قبلكم من حدث ؟ ” قال معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل” فأعاد أبو سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول ، فلم يرد عليه شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              فذهب إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فكلمه وقال : تكلم محمدا أو تجير أنت بين الناس ، فقال أبو بكر : جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاد ابن عقبة : والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم .

                                                                                                                                                                                                                              فأتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر ، فقال : أنا أشفع لكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم!! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله ، وما كان منه متينا فقطعه الله ، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله . فقال أبو سفيان جوزيت من ذي رحم شرا . [ ص: 207 ]

                                                                                                                                                                                                                              فأتى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال إنه ليس في القوم أحد أقرب رحما منك ، فزد في المدة ، وجدد العهد ، فإن صاحبك لا يرده عليك أبدا ، فقال عثمان : جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              فأتى عليا - رضي الله تعالى عنه - فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحما ، وإني جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائبا ، فاشفع لي إلى محمد . فقال : ويحك يا أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ، فأتى سعد بن عبادة - رضي الله تعالى عنه - فقال : يا أبا ثابت أنت سيد هذه البحيرة فأجر بين الناس ، وزد في المدة ، فقال سعد : جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى أشراف قريش والأنصار فكلهم يقول جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أيس مما عندهم ، دخل على فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - والحسن غلام يدب بين يديها فقال : يا بنت محمد ، هل لك أن تجيري بين الناس ؟ فقالت : إنما أنا امرأة ، وأبت عليه ، فقال : مري ابنك هذا - أي الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر . قالت : والله ما بلغ ابني ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال لعلي : يا أبا الحسن !! إن أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني ، قال : والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا ، ولكنك سيد بني كنانة وقال : صدقت ، وأنا كذلك . قال : فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك ، قال : أوترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال : لا والله ، ولكن لا أجد لك غير ذلك ، فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد ،

                                                                                                                                                                                                                              ثم دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد إني قد أجرت بين الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة!!” ثم ركب بعيره وانطلق .

                                                                                                                                                                                                                              وكان قد احتبس وطالت غيبته ، وكانت قريش قد اتهمته حين أبطأ أشد التهمة ، قالوا :

                                                                                                                                                                                                                              والله إنا نراه قد صبأ ، واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه .

                                                                                                                                                                                                                              فلما دخل على هند امرأته ليلا ، قالت : لقد احتبست حتى اتهمك قومك ، فإن كنت مع الإقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل ، ثم دنا منها فجلس مجلس الرجل من امرأته . فقالت ما صنعت ؟ فأخبرها الخبر ، وقال : لم أجد إلا ما قال لي علي ، فضربت برجلها في صدره وقالت :

                                                                                                                                                                                                                              قبحت من رسول قوم ، فما جئت بخير .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند إساف ونائلة ، وذبح لهما ، وجعل يمسح بالدم . [ ص: 208 ]

                                                                                                                                                                                                                              رؤوسهما ويقول : لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي ، إبراء لقريش مما اتهموه به ، فلما رأته قريش ، قاموا إليه فقالوا : ما وراءك ؟ هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا محمد ؟ فقال : والله لقد أبى علي ، وفي لفظ : لقد كلمته ، فو الله ما رد علي شيئا ، وكلمت أبا بكر فلم أجد فيه خيرا ، ثم جئت ابن الخطاب - رضي الله عنه - فوجدته أدنى العدو ، وقد كلمت علية أصحابه ، فما قدرت على شيء منهم إلا أنهم يرمونني بكلمة واحدة ، وما رأيت قوما أطوع لملك عليهم منهم له ، إلا أن عليا لما ضاقت بي الأمور قال : أنت سيد بني كنانة ، فأجر بين الناس ، فناديت بالجوار ، فقال محمد «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة!!” لم يزدني قالوا : رضيت بغير رضى ، وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ، ولعمر الله ما جوارك بجائز ، وإن إخفارك عليهم لهين ، ما زاد على من أن لعب بك تلعبا . قال : والله ما وجدت غير ذلك .


                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية