الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الثلاثون : قال الخطابي - رحمه الله - تعالى : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين .

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أن الله - تعالى - قد أباح «التقية» إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن [كان] يمكنه التورية ، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية .

                                                                                                                                                                                                                              والوجه الثاني : أنه إنما رده إلى أبيه ، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك ، وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا ، وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله - تعالى - يبتلي به صبر عباده المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي والثلاثون : اختلف العلماء رحمهم الله ، هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم ، على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير . وقيل : لا . وإن الذي وقع في القصة : منسوخ ، وإن ناسخه «أنا [ ص: 78 ]

                                                                                                                                                                                                                              بريء من مسلم بين المشركين»
                                                                                                                                                                                                                              وهو قول الحنفية ، وعند الشافعية ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب الثاني والثلاثون : قال النووي - رحمه الله - وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في رد من جاء من المشركين في ترك كتابته بسم الله الرحمن الرحيم وكتب باسمك اللهم ، وفي ترك كتابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من جاء من المسلمين إليهم وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور ، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناها واحد ، وكذلك قوله : «محمد بن عبد الله» هو أيضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في ترك وصف الله تعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه - صلى الله عليه وسلم - هنا بالرسالة لا ينفيها ، ولا مفسدة فيما طلبوه ، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك ، وإنما شرط رد من جاءنا منهم ومنع من ذهب إليهم فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الحكمة فيه بقوله :

                                                                                                                                                                                                                              «من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» . ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم - فجعل الله للذين جاءونا منهم وردهم إليهم فرجا ومخرجا . ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث والثلاثون : في إتيان عمر أبا بكر رضي الله عنهما وإجابة أبي بكر لعمر بمثل ما أجاب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أنه أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بأمور الدين وأشدهم موافقة لأمر الله - تعالى - وسبق في باب إرادة الصديق الهجرة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد ابن الدغنة له ، وقوله لقريش ، إن مثله لا يخرج ، ووصفه بنظير ما وصفت به خديجة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كونه يصل الرحم ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق وغير ذلك . فلما كانت صفاتهما متشابهة من الابتداء ، استمر ذلك إلى الانتهاء ، ولم يذكر عمر أنه راجع أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير أبي بكر ، وذلك لجلالة قدره وسعة علمه عنده .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع والثلاثون : قول عمر - رضي الله عنه - فعملت لذلك أعمالا ، قال بعض الشراح - رحمهم الله : أي من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب ، لم يكن ذلك شكا من عمر ، بل طلبا من كشف ما خفي عليه ، وحثا على إذلال الكفار ، لما عرف من قوته في نصرة الدين .

                                                                                                                                                                                                                              انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود ، بل المراد الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده بقوله : «أعمالا [ ص: 79 ]

                                                                                                                                                                                                                              لأتقي» ، ورواية ابن إسحاق : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس : قال عمر :

                                                                                                                                                                                                                              لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا ، وأما قوله : ولم يكن شك ، فإن أراد نفي الشك فواضح ، وقد وقع في رواية ابن إسحاق أن أبا بكر لما قال له الزم غرزه فإنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمر : أنا أشهد أنه رسول الله ، وإن أراد نفي الشك في وجود المصلحة وعدمها فمردود ، وقد قال السهيلي - رحمه الله - هذا الشك ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة ، كذا قال الحافظ . والذي يظهر أنه توقف معه ليقف على الحكمة في القصة ، وتنكشف عنه الشبهة ، ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأول لم يطابق اجتهاده الحكم ، بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة ، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه ، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو مأجور ، لأنه مجتهد فيه .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس والثلاثون : إنما توقف المسلمون في النحر والحلق بعد الأمر بهما ، لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب ، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، وتخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، ويسوغ لهم ذلك ، لأنه كان زمان وقوع التشريع . ويحتمل أن يكونوا أبهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم - في اعتقادهم - على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة ، وأخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقضي الفور ، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم كما سبق في القصة من كلام أم سلمة - رضي الله عنها - في قولها «لا تلمهم» إلخ .

                                                                                                                                                                                                                              السادس والثلاثون : في كلامه - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة في توقف الناس عن امتثال أمره ، جواز مشاورة الأمر المرأة الفاضلة ، وفضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال إمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة ، كذا قال وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسى .

                                                                                                                                                                                                                              السابع والثلاثون : لا يعد ما وقع من أبي بصير من قتله الرجل الذي جاء في طلبه غدرا لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ، إلا أنه إذ ذاك كان محبوسا بمكة ، لكنه لما خشي أن المشرك يعيده إلى المشركين درأ عن نفسه بقتله ، ودافع عن دينه بذلك ، ولم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن والثلاثون : في حديث المسور ، ومروان بعد ذكر قصة أبي بصير ، فأنزل الله - تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم [الفتح 24] ظاهره أنها نزلت في [ ص: 80 ]

                                                                                                                                                                                                                              شأن أبي بصير ،
                                                                                                                                                                                                                              وفيه نظر ، والمشهور في سبب نزولها ما رواه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ، ومن حديث أنس بن مالك ، وأحمد ، والنسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن مغفل أنها أنزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة فظفر المسلمون بهم ، فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل في سبب نزولها غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع والثلاثون : قال البلاذري - رحمه الله - قال العلماء : والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده الظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا ، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون ، ولا يتظاهر عندهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ، هو ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة ، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة ، وذهب المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم ، وسمعوا منهم أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مفصلة بجزئياتها ، ومعجزاته الظاهرة ، وأعلام نبوته المتظاهرة ، وحسن سيرته ، وجميل طريقته ، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك ، فمالت نفوسهم إلى الإيمان حتى بدر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة ، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام ، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان تمهد لهم من الميل ، وكانتالعرب في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية