الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر أمر مسجد الضرار عند رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن إسحاق عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق آخر . والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس - رضي الله عنه - وابن أبي حاتم وابن مروديه عن طريق آخر عن ابن عباس ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير ومحمد بن عمر عن يزيد بن رومان - رحمه الله تعالى - أن بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيهم فيصلي فيه ، فلما رأى ذلك ناس من بني غنم بن عوف فقالوا : نبني نحن أيضا مسجدا كما بنوا ، فقال لهم أبو عامر الفاسق قبل خروجه إلى الشام : ابنوا مسجدكم واستمدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجيش من الروم فأخرج محمدا وأصحابه ، فكانوا يرصدون قدوم أبي عامر الفاسق ، وكان خرج من المدينة محاربا لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغوا من مسجدهم أرادوا أن يصلي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليروج لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد ، فعصم الله تبارك وتعالى [ ص: 471 ] رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة فيه ،

                                                                                                                                                                                                                              فأتى جماعة منهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوجه إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه قال : "إني على جناح سفر وحال شغل ، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا لكم فيه" فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ونزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - أنزل الله سبحانه وتعالى : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا


                                                                                                                                                                                                                              [التوبة 107] الآية .

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي في الدلائل عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - في قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                              والذين اتخذوا مسجدا ضرارا هم أناس من الأنصار ، ابتنوا مسجدا ، فقال لهم أبو عامر :

                                                                                                                                                                                                                              ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : فرغنا من بناء مسجدنا [ونحن نحب] أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة ، فأنزل الله عز وجل : لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم - يعني مسجد قباء - أحق أن تقوم فيه فيه رجال إلى قوله : شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين
                                                                                                                                                                                                                              [التوبة 109] قال الحافظ بن حجر : والجمهور على أن المسجد المراد به الذي أسس على التقوى مسجد قباء ، وقيل هو مسجد المدينة . قال : والحق أن كلا منها أسس على التقوى .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى - في بقية الآية فيه رجال يحبون أن يتطهروا يؤكد أن المسجد مسجد قباء .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي وغيره : ليس هذا اختلافا ، فإن كلا منهما أسس على التقوى ، وكذا قال السهيلي وزاد أن قوله : من أول يوم يقتضي مسجد قباء ، لأن تأسيسه كان من أول يوم وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة ، وابن هشام عن عروة عن أبيه قال : كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها ليه كانت تربط حمارا لها فيه ، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدا ، فقال أهل مسجد الضرار : نحن نصلي في مربط حمار ليه ؟ لا لعمر الله ، لكنا نبني مسجدا فنصلي فيه ، وكان أبو عامر بريء من الله ورسوله ، ولحق بعد ذلك بالشام فتنصر فمات بها ، فأنزل الله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                              والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا
                                                                                                                                                                                                                              [التوبة 107] . قال ابن النجار : هذا المسجد بناه المنافقون مضاهيا لمسجد قباء ، وكانوا مجتمعين فيه يعيبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستهزئون به ، [ ص: 472 ] وقال ابن عطية : روي عن ابن عمر أنه قال : المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمراد بقوله أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله وهو مسجد قباء ، وأن البنيان الذي أسس على شفا جرف هار فهو مسجد الضرار بالإجماع .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق ، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع بن جارية وزيد بن جارية ، ونفيل بن الحرث من بني ضبيعة ، وبحزج بن عثمان من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت من بني أمية بن عبد المنذر .

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعضهم : إن رجالا من بني عمرو بن عوف وكان أبو عامر المعروف بالراهب - وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفاسق - منهم ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي - زاد البغوي : وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة ، زاد الذهبي في التجريد : سويد بن عباس الأنصاري - فقال : "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فهدموه وحرقوه" فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف ، فقال مالك لرفيقيه : أنظراني حتى أخرج إليكما ، فدخل إلى أهله وأخذ سعفا من النخيل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون حتى أتوا المسجد بين المغرب والعشاء ، وفيه أهله وحرقوه وهدموه حتى وضعوه بالأرض وتفرق عنه أصحابه ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد يتخذه دارا ، فقال عاصم يا رسول الله : ما كنت لأتخذ مسجدا - قد أنزل الله فيه ما أنزل - دارا ، ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له ، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن أقرم . فلم يولد في ذلك البيت مولود قط . ولم ينعق فيه حمام قط ولم تحضن فيه دجاجة قط .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن المنذر عن سعيد بن جبير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة ، وابن المنذر عن ابن جريج - رحمهم الله تعالى - قالوا : ذكر لنا أنه حفر في مسجد الضرار بقعة فأبصروا الدخان يخرج منها .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية