الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال المصنف: وما زال عمر بن عبد العزيز منذ ولي يجتهد في العدل ومحو الظلم وترك الهوى ، وكان يقول للناس: ارحلوا إلى بلادكم فإني أنساكم ها هنا وأذكركم في بلادكم . ومن ظلمه عامله فلا إذن له علي .

وخير جواريه لما ولي ، فقال: قد جاء أمر شغلني عنكن فمن أحب أن أعتقه أعتقته ، ومن أراد أن أمسكه أمسكته ولم يكن مني إليها شيء ، قالت زوجته فاطمة: ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة ولا من احتلام منذ ولي إلى أن مات .

وقيل لها: اغسلي قميصه ، فقالت: والله ما يملك غيره .

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي ، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف ، قال:

أخبرنا عبد الملك بن بشران ، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي ، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر ، قال: أخبرنا أبو الفضل الربعي ، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، عن الهيثم بن عدي ، قال:

كانت لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان - زوجة عمر - جارية ذات جمال فائق ، وكان عمر معجبا بها قبل أن تفضي إليه الخلافة ، فطلبها منها وحرص ، فغارت من ذلك ، فلم تزل في نفس عمر ، فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فأصلحت ثم حليت ، فكانت حديثا في حسنها وجمالها ، ثم دخلت فاطمة بالجارية على عمر ، فقالت: يا أمير المؤمنين ، إنك كنت بفلانة معجبا ، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك ، وإن نفسي قد طابت لك بها اليوم ، فدونكها ، فلما قالت ذلك استبانت الفرح في وجهه ، ثم قال: ابعثي بها إلي ، ففعلت ، فلما دخلت عليه نظر إلى شيء أعجبه فازداد بها عجبا ، فقال لها: ألقي [ ص: 43 ] ثوبك ، فلما همت أن تفعل قال: على رسلك ، اقعدي ، أخبريني لمن كنت؟ ومن أين أنت لفاطمة؟ قالت: كان الحجاج بن يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا ، وكنت في رقيق ذلك العامل فاستصفاني عنه مع رقيق له وأموال ، فبعث بي إلى عبد الملك بن مروان وأنا يومئذ صبية ، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة . قال: وما فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك ، قال: وما ترك ولدا؟ قالت: بلى ، قال: وما حالهم؟ قالت:

بشر ، قال: شدي عليك ثوبك .

ثم كتب إلى عبد الحميد عامله على بلدهم: أن سرح إلي فلان بن فلان على البريد ، فلما قدم قال: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك فلم يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه ، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ، فلما أخذ بيدها قال: إياك وإياها فإنك حديث السن ولعل أباك أن يكون قد وطئها ، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين هي لك ، قال: لا حاجة لي فيها ، قال: فابتعها مني ، قال: لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى . فمضى بها الفتى فقالت له الجارية: فأين موجدتك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها لعلى حالها ولقد ازدادت ، فلم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات .

أخبرنا هبة الله بن أحمد الجريري ، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال:

أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن خلف ، قال: حدثنا أحمد بن مطرف ، قال: حدثنا أحمد بن المغلس الجماني ، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، قال: حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي الزناد ، عن أبي حازم ، قال:

قدمت على عمر بن عبد العزيز وقد ولي الخلافة ، فلما نظر إلي عرفني ولم أعرفه ، فقال: ادن مني ، فدنوت منه ، فقلت: أنت أمير المؤمنين؟ قال: نعم ، فقلت:

ألم تكن عندنا بالمدينة أميرا ، فكان مركبك وطيا ، وثوبك نقيا ووجهك بهيا ، وطعامك شهيا ، وخدمك كثير ، فما الذي غيرك وأنت أمير المؤمنين؟ فبكى وقال: يا أبا حازم ، كيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، ثم جف لساني ، وانشقت بطني وجرت الديدان في بدني لكنت لي أشد إنكارا ، أعد علي الحديث الذي حدثتني بالمدينة ، قلت: يا أمير المؤمنين ، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين أيديكم عقبة كؤودا مضرسة لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول . [ ص: 44 ]

قال: فبكى بكاء طويلا ثم قال لي: يا أبا حازم ، أما ينبغي لي أن أضمر نفسي لتلك العقبة فعسى أن أنجو منها يومئذ ، وما أظن أني مع هذا البلاء الذي ابتليت به من أمور الناس بناج . ثم رقد ثم تكلم الناس ، فقلت: أقلوا الكلام فما فعل به ما ترون إلا سهر الليل ، ثم تصبب عرقا في يوم الله أعلم كيف كان ، ثم بكى حتى علا نحيبه ، ثم تبسم ، فسبقت الناس إلى كلامه ، فقلت: يا أمير المؤمنين ، رأيت منك عجبا ، إنك لما رقدت تصببت عرقا حتى ابتل ما حولك ، ثم بكيت حتى علا نحيبك ثم تبسمت ، فقال لي:

وقد رأيت ذلك؟ قلت: نعم ومن كان حولك من الناس رآه ، فقال لي: يا أبا حازم ، إني لما وضعت رأسي فرقدت ، رأيت كأن القيامة قد قامت واجتمع الناس ، فقيل: إنهم عشرون ومائة صف فملئوا الأفق ، أمة محمد من ذلك ثمانون صفا مهطعين إلى الداعي ينتظرون متى يدعون إلى الحساب ، إذ نودي: أين عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق؟ فأجاب فأخذته الملائكة فأوقفوه أمام ربه عز وجل ، فحوسب ثم نجا [وأخذ به ذات اليمين ، ثم نودي بعمر فقربته الملائكة ، فوقفوه أمام ربه ، فحوسب ثم نجا] وأمر به وبصاحبه إلى الجنة . ثم نودي بعثمان ، فأجاب ، فحوسب يسيرا ، ثم أمر به إلى الجنة ، ثم نودي بعلي بن أبي طالب ، فحوسب ثم أمر به إلى الجنة . فلما قرب الأمر مني أسقط في يدي ، ثم جعل يؤتى بقوم لا أدري ما حالهم ، ثم نودي: أين عمر بن عبد العزيز؟ فتصببت عرقا ، ثم سئلت عن الفتيل والنقير والقطمير وعن كل قضية قضيت بها ، ثم غفر لي ، فمررت بجيفة ملقاة ، فقلت للملائكة: من هذا؟ فقالوا: إنك لو كلمته كلمك ، فوكزته برجلي فرفع رأسه إلي وفتح عينيه ، فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا عمر بن عبد العزيز ، قال: ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل علي وفعل بي ما فعل بالخلفاء الأربعة الذين غفر لهم ، وأما الباقون فما أدري ما فعل بهم ، [ ص: 45 ] فقال لي: هنيئا لك ما صرت إليه . قلت له: من أنت؟ قال: أنا الحجاج ، قدمت على الله عز وجل فوجدته شديد العقاب فقتلني بكل قتلة قتلة ، وها أنا موقوف بين يدي الله عز وجل أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم ، إما إلى الجنة وإما إلى النار .

قال أبو حازم: فعاهدت الله عز وجل بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز ألا أقطع على أحد بالنار ممن يموت وهو يقول لا إله إلا الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية