الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

575 - أبان بن عثمان بن عفان ، يكنى أبا سعيد

ولي المدينة لعبد الملك سبع سنين وأشهر ، وهو أحد سبعة من فصحاء الإسلام ، سعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن عمير الليثي ، وأبو الأسود الدؤلي ، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص ، والحسن البصري ، وقبيصة بن جابر الأسدي .

وولد [له] ستة ذكور منهم عبد الرحمن بن أبان . وكان من أزهد الناس ، وعقب أبان كثير بناحية الأندلس . توفي بالمدينة في هذه السنة بعد أن فلج سنه أعظم فالج حتى ضرب به المثل . وكان به وضح عظيم ، وصمم شديد ، وحول قبيح . وهو وأخواه عمرو وعمر لأم واحدة .

576 - شفي بن ماتع ، أبو عبيد الأصبحي :

يروي عن عبد الله بن عمرو ، وأبي هريرة . وكان عالما حكيما . روى عنه أبو قبيل المعافري وغيره . وكان شفي إذا أقبل يقول عبد الله بن عمرو : جاءكم أعلم من عليها .

577 - الضحاك بن مزاحم ، أبو القاسم الهلالي :

أصله من الكوفة ، حملت به أمه سنتين ، وكان عالما بالتفسير ، لقي سعيد بن جبير [ ص: 101 ] فأخذ عنه ، ولم ير ابن عباس ، وكان يعلم ولا يأخذ أجرا ، ثم أقام ببلخ .

قال قبيصة بن قيس العنبري : كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى ، فيقال له: ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي .

توفي الضحاك في هذه السنة ، وقيل: في سنة اثنتين ومائة .

578 - عبد الله بن حبيب بن ربيعة ، أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي :

سمع عثمان ، وعليا ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وغيرهم . روى عنه سعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي . وأقرأ القرآن الناس أربعين سنة ، وصام ثمانين رمضان .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، قال: أنبأنا أبو بكر بن ثابت ، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يوسف الصياد ، قال: أخبرنا أحمد بن يوسف بن خلاد ، قال: حدثنا الحارث بن محمد ، قال: حدثنا عفان ، قال: حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، قال : دخلنا على عبد الله بن حبيب وهو يقضي في مسجده ، فقلنا: يرحمك الله لو تحولت إلى فراشك ، فقال: حدثني من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة ، تقول الملائكة: اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه" .

فأريد أن أموت وأنا في مسجدي .
توفي في هذه السنة وله تسعون سنة . [ ص: 102 ]

579 - عكرمة مولى عبد الله بن عباس ، يكنى أبا عبد الله :

توفي ابن عباس وهو عبد ، فاشتراه خالد بن يزيد بن معاوية من علي بن عبد الله بن عباس بأربعة آلاف دينار ، فبلغ ذلك عكرمة فأتى عليا فقال: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار ، فراح علي إلى خالد فاستقاله فأقاله فأعتقه .

وكان يروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، والحسين بن علي ، وعائشة .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سليمان ، قال: حدثنا حمد بن أحمد ، قال:

حدثنا أبو نعيم الأصفهاني ، قال: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن ، قال:

حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، قال: حدثنا سعيد بن عمر ، قال: حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير بن الحريث ، عن عكرمة ، قال:

كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ، والسنن .

وكان الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة .

وقال جابر بن زيد : عكرمة أعلم الناس .

وقال قتادة : أعلمهم بالتفسير عكرمة .

توفي عكرمة بالمدينة في هذه السنة ، وقيل: في سنة سبع ، وقيل: في سنة ست ، وهو ابن ثمانين سنة .

580 - غزوان بن غزوان الرقاشي ، وقيل: غزوان بن زيد :

كان من كبار الصالحين .

أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر ، عن أبي محمد الجوهري ، عن أبي عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا ابن معروف ، قال: حدثنا الحسين بن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، [ ص: 103 ] قال: حدثنا يحيى بن راشد ، قال: حدثنا عثمان بن عبد الحميد الرقاشي ، قال:

سمعت مشيختنا يذكرون:

أن غزوان لم يضحك منذ أربعين سنة .

وكان غزوان يغزو ، فإذا أقبلت الرفاق راجعين تستقبلهم أمه فتقول لهم: أما تعرفون غزوان ، فيقولون: ويحك يا عجوز ، ذاك سيد القوم .

581 - كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد ، أبو صخر الخزاعي الشاعر :

واسم أمه جمعة بنت الأشيم بن خالد ، وقيل: جمعة بنت كعب بن عمرو . وقيل:

كانت كنية جده أبي أمه أبا جمعة ، فلذلك قيل: ابن أبي جمعة . وكان شاعرا مجيدا إلا أنه كان رافضيا يقول بإمامة محمد بن الحنفية ، وأنه أحق من الحسن والحسين بالإمامة ومن سائر الناس . وأنه حي مقيم بجبل رضوى لا يموت . ومدح عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ، وكان يقول بالتناسخ والرجعة . وكان يقول: أنا يونس بن متى ، يعني أن روحه نسخت في . وقال يوما: ما يقول الناس في؟ قيل: يقولون إنك الدجال ، فقال:

إني لأجد في عيني ضعفا منذ أيام .

وكان بمكة وقد ورد على الأمراء الأمر بلعن علي رضي الله عنه ، فرقى المنبر وأخذ بأستار الكعبة وقال:


لعن الله من يسب عليا وبنيه من سوقة وإمام     أيسب المطهرون أصولا
والكرام الأخوال والأعمام     يأمن الطير والحمام ولا
يأمن آل الرسول عند المقام

فأنزلوه عن المنبر وأثخنوه ضربا بالنعال وغيرها فقال:


إن امرأ كانت مساوئه     حب النبي بغير ذي عتب
[ ص: 104 ] وبني أبي حسن ووالدهم     من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنبا أن أحبهم     بل حبهم كفارة الذنب

وكان كثير دميم الخلقة فاستزاره عبد الملك ، فازدراه لدمامته ، فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، فقال كثير:


ترى الرجل النحيف فتزدريه     وفي أثوابه أسد مزير

فقال له: إن كنا أسأنا اللقاء فلسنا نسيء الثواء ، حاجتك ، قال: تزوجني عزة ، فأراد أهلها على ذلك ، فقالوا: هي بالغ وأحق بنفسها ، فقيل لها ، فقالت: أبعد ما تشبب بي وشهرني في العرب ما لي إلى ذلك سبيل .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال: أخبرنا الحسين بن عبد الجبار ، قال:

أخبرنا أبو الطيب الطبري ، قال: حدثنا المعافى بن زكريا ، قال: حدثنا الحسن بن علي بن المرزبان ، قال: حدثنا عبد الله بن هارون النحوي ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينوري ، قال: حدثني نصر بن ميمون ، عن العتبي ، قال:

كان عبد الملك بن مروان يحب النظر إلى كثير إذ دخل عليه آذنه يوما ، فقال: يا أمير المؤمنين ، هذا كثير بالباب ، فاستبشر عبد الملك وقال: أدخله يا غلام ، فأدخل كثير - وكان دميما حقيرا تزدريه العين - فسلم بالخلافة ، فقال عبد الملك: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، فقال كثير: مهلا يا أمير المؤمنين ، فإنما الرجل بأصغريه:

لسانه وقلبه ، فإن نطق نطق ببيان ، وإن قاتل قاتل بجنان ، وأنا الذي أقول:


وجربت الأمور وجربتني     فقد أبدت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال علي إني     بهم لأخو مثاقفه خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه     وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه     فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين     ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوما     ولم تطل البزاة ولا الصقور
[ ص: 105 ] بغاث الطير أكثرها فراخا     وأم الصقر مقلات نزور
لقد عظم البعير بغير لب     فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي     ولا عرف لديه ولا نكير

ثم قال له: يا كثير أنشدني في إخوان ذكروك بهذا ، فأنشده:


خير إخوانك المنازل في المر     وأين الشريك في المر أينا
الذي إن حضرت سرك في الحي     وإن غبت كان أذنا وعينا
ذاك مثل الحسام أخلصه القين     جلاه الجلاء فازداد زينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم     بدلوا كل ما يزينك شينا
وإذا ما رأوك قالوا جميعا     أنت [من] أكرم الرجال علينا

فقال له عبد الملك: يغفر الله لك يا كثير ، فأين الإخوان غير أني أقول:


صديقك حين تستغني كثير     وما لك عند فقرك من صديق
[فلا تنكر على أحد إذا ما     طوى عنك الزيارة عند ضيق]
وكنت إذا الصديق أراد غيظي     على حنق وأشرقني بريقي
غفرت ذنوبه وصفحت عنه     مخافة أن أكون بلا صديق

وكان كثير يعشق عزة بنت حميد بن وقاص ، وهي من بني ضمرة ، وتشبب بها ، وكانت حلوة مليحة ، وكان ابتداء عشقه لها ما روى الزبير بن بكار ، عن عبد الله بن إبراهيم السعدي ، قال: حدثني إبراهيم بن يعقوب بن جميع :

أنه كان أمر كثير أنه مر بنسوة من بني ضمرة ومعه غنم ، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة ، فقالت: تقول لك النسوة: بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع ، فأعطاها كبشا فأعجبته حينئذ ، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه ، فقال: أين الصبية [ ص: 106 ] التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها ، هذه دراهمك ، قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت إليه ، وقال:


قضى كل ذي دين فوفى غريمه     وعزة ممطول معنى غريمها

وفي رواية أنه أنشدهن:


نظرت إليها نظرة وهي عاتق     على حين أن شبت وبان نهودها
نظرت إليها نظرة ما يسرني     بها حمر أنعام البلاد وسودها
وكنت إذا ما جئت سعدا بأرضها     أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها     إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

ثم أحبته عزة أشد من حبه إياها ، ودخلت إليه يوما وهو يبري السهام فحدثته وهو يبري فبرى ذراعه وسال الدم وهو لا يعلم .

وقد حكي عنه أنه لم يكن بالصادق في محبته . وروينا أن عزة تنكرت له فتبعها وقال: يا سيدتي قفي أكلمك ، قالت وهل تركت عزة فيك بقية لأحد ، فقال: لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك ، قالت: فكيف بما قلت في عزة؟ قال: أقلبه لك ، فسفرت عن وجهها وقالت: أغدرا يا فاسق ، ومضت ، فقال:


ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي     من السم جدحات بماء الذرارح
فمت ولم تعلم علي خيانة     وكم طالب للربح ليس برابح

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، ومحمد بن ناصر ، قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه ، قال:

حدثنا أبو بكر بن الأنباري ، قال: حدثنا أحمد بن يحيى ، عن الزبير بن بكار ، قال:

كتب إلي إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: حدثني أبو المتيع قال:

خرج كثير يلتمس عزة ومعه شنينة فيها ماء فأخذه العطش فتناول الشنينة فإذا هي غطم ما فيها شيء من الماء ، فرفعت له نار فأمها ، فإذا بقربها مظلة بفنائها عجوز ، فقالت له: من أنت؟ قال: أنا كثير ، قالت: قد كنت أتمنى ملاقاتك فالحمد لله الذي [ ص: 107 ] أرانيك ، قال: وما الذي تلتمسينه عندي؟ قالت: ألست القائل:


إذا ما أتينا خلة كي تزيلها     أبينا وقلنا الحاجبية أول
سنوليك عرفا إن أردت وصالنا     ونحن لتلك الحاجبية أوصل

قال: بلى ، قالت: أفلا قلت كما قال سيدك جميل:


يا رب عارضة علي وصالها     بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها في القول بعد تأمل     حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي كقدر قلامة     فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي

قال: دعي هذا واسقيني ماء ، قالت: والله لا سقيتك شيئا ، قال: ويحك إن العطش قد أضر بي ، قالت ثكلت بثينة إن طعمت عندي قطرة ماء ، فكان جهده أن ركضت راحلته ومضى يطلب الماء ، فما بلغه حتى أضحى النهار وقد أجهده العطش .

قال أبو بكر بن الأنباري : وحدثني أبي ، قال: حدثنا أبو عكرمة وأحمد بن عبيدة ، قالا:

لما أتي يزيد بن عبد الملك بأسارى بني المهلب أمر بضرب أعناقهم ، فكان كثير حاضرا ، فقام وأنشأ يقول:


فعفو أمير المؤمنين وحسبة     فما يحتسب من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك قادر     وأفضل حلم حسبة حلم مغضب

فقال يزيد: يا كثير أطت بك الرحم قد وهبناهم لك ، وأمر برفع القتل عنهم .

قال أبو بكر: أطت: حنت .

أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي ، قال: أخبرنا علي بن عيسى الرماني ، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد ، قال: أخبرنا عبد الأول بن مزيد ، قال: أخبرني حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، قال: [ ص: 108 ]

خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان فأكرمه ورفع منزلته وأحسن جائزته وقال:

سلني ما شئت من الحوائج ، قال: نعم أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة فيقفني عليه ، فقال رجل من القوم: إني لعارف به ، فانطلق به الرجل حتى انتهى إلى قبرها ، فوضع يده عليه وعيناه تجريان وهو يقول:


وقفت على ربع لعزة ناقتي     وفي الترب رشاش من الدمع يسفح
فيا عز أنت البدر قد حال دونه     رجيع تراب والصفيح المصرح
وقد كنت أبكي من فراقك خيفة     فهذا لعمري اليوم إياي أنزح
فهلا فداك الموت من أنت قربه     ومن هو أسوأ منك حالا وأقبح
ألا لا أرى بعد ابنة النضر لذة     بشيء ولا ملحا لمن يتملح
فلا زال وادي رمس عزة سائلا     به نعمة من رحمة الله تسفح
أرب لعيني البكا كل ليلة     فقد كان مجرى دمع عيني يقرح
إذا لم يكن ماء تجلتنا دما     وشر البكاء المستعار الممنح

ومن شعر كثير:


خليلي هذا رسم عزة فاعقلا     قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا     ولا مرجفات الحزن حتى تولت
فقلت لها يا عز كل مصيبة     إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها     وحلت بلاغا لم تكن قبل حلت
وو الله ما قاربت إلا تباعدت     بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة     لدينا ولا مولية إن تقلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي     بعزة كانت غمرة فتجلت
وكنا ارتقينا من صعود من الهوى     فلما علوناه ثبت وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا     فلما توافينا شددت وحلت
وللعين أسراب إذا ما ذكرتها     وللقلب أسرار إذا العين ملت

توفي كثير عزة وعكرمة في هذه السنة في يوم واحد ، فصلي عليهما في مكان واحد [ ص: 109 ] بعد الظهر ، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس . وكان كثير يقول عند موته لأهله: لا تبكوا علي فإني بعد أربعين يوما أرجع .

582 - يزيد بن عبد الملك بن مروان:

توفي بالبلقاء من أرض دمشق وهو ابن ثمان وثلاثين ، وقيل: ثلاث وثلاثين ، وكانت وفاته يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان هذه السنة ، وصلى عليه نساء الوليد ، وكان هشام بن عبد الملك يومئذ بحمص ، وكانت خلافته أربع سنين وشهرا .

وكان سبب موته أنه كانت له جارية اسمها حبابة ، وكان يحبها حبا شديدا ، فماتت فتغير وبقي أياما لا يظهر للناس ، ثم مات .

وروى أبو بكر بن دريد ، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، عن عمه ، قال:

حج يزيد بن عبد الملك في خلافة أخيه سليمان بن عبد الملك ، فعرضت عليه جارية مغنية جميلة ، فأعجب بها غاية الإعجاب فاشتراها بأربعة آلاف دينار ، وكان اسمها الغالية فسماها حبابة ، وكان يهواها الحارث بن خالد المخزومي ، فقال لما بلغه خروج يزيد بها:


ظعن الأمير بأحسن الخلق     وغدا بليل مطلع الشرق

وبلغ سليمان خبرها فقال: لهممت أن أحجر على يزيد يبتاع جارية بأربعة آلاف دينار ، وكان يزيد يهابه ويتقيه ، فتأدى إليه قوله فردها على مولاها واسترجع منه المال ، وباعها مولاها من رجل من أهل مصر بهذا الثمن ، ومكث يزيد آسفا متحسرا عليها ، فلم تمض إلا مديدة حتى تقلد يزيد الأمر .

فبينا هو [في] بعض الأيام مع امرأته سعدى بنت عمرو بن عثمان إذ قالت له:

بقي في قلبك شيء من أمور الدنيا لم تنله؟ قال: نعم حبابة ، فأمسكت حتى إذا كان من الغد أرسلت بعض ثقاتها إلى مصر ، ودفعت إليه مالا وأمرته بابتياع حبابة ، فمضى فما كان بأسرع من أن ورد وهي معه قد اشتراها ، فأمرت سعدى قيمة جواريها أن تصنعها ، وكستها من أحسن الثياب ، وصاغت لها من أفخر الحلي ، ثم قالت [ ص: 110 ] لها: أمير المؤمنين متحسر عليك وله اشتريتك ، فسرت ودعت لها ، ولبثت أياما تصنعها تلك القيمة حتى إذا ذهب عنها وعث السفر قالت سعدى ليزيد: إني أحب أن تمضي معي إلى بستانك بالغوطة لنتنزه فيه ، قال: أفعل فتقدميني ، فمضت وضربت ، فيه قبة وشي ونجدتها بالفرش وجعلت داخلها كله قصب وأجلست فيها حبابة ، وجاء يزيد فأكلوا وجلسوا على شرابهم ، فأعادت سعدى عليه: هل بقي في قلبك من الدنيا شيء لم تبلغه؟ قال: نعم حبابة ، قالت: فإني قد اشتريت جارية ذكرت أنها علمتها غناءها كله ، فهي تغني مثلها فتنشط لاستماعها ، قال: أي والله ، فجاءت به إلى القبة وجلسا قدامها وقالت: غني يا جارية ، فغنت الصوت الذي غنته ليزيد لما اشتراها وهو من شعر كثير:


وبين التراقي والفؤاد حرارة     مكان الشجى لا تستقل فتبرد

قال يزيد: حبابة والله ، فقالت: سعدى: حبابة ، والله لك اشتريتها وقد أهديتها لك فسر سرورا عظيما وشكرها غاية الشكر وانصرفت وتركته مع حبابة ، فلما كان بالعشي صعد معها إلى مستشرف في البستان وقال لها: غني


وبين التراقي والفؤاد حرارة     مكان الشجى لا تستقل فتبرد

فغنته فأهوى ليرمي بنفسه وقال: أطير والله ، فتعلقت به وقالت له: الله الله يا أمير المؤمنين ، فأقام معها ثلاثة أيام ثم انصرفا ، فأقامت أياما ثم مرضت وماتت فحزن عليها حزنا شديدا وامتنع من الطعام والشراب ومرض فمات .

أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أخبرنا ابن العلاف ، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران ، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم ، قال: أخبرنا محمد بن جعفر ، قال: أخبرنا علي بن الأعرابي ، قال: حدثنا علي بن عمروس:

أن يزيد بن عبد الملك دخل يوما بعد موت حبابة إلى خزائنها ومقاصيرها ، فطاف فيها ومعه جارية من جواريها فتمثلت الجارية بهذا البيت:


كفى حزنا بالواله الصب أن يرى     منازل من يهوى معطلة قفرا

[ ص: 111 ] فصاح صيحة وخر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى من الليل [هوي] فلم يزل بقية ليلته باكيا ، فلما كان اليوم الثاني وقد انفرد في بيت يبكي عليها جاءوا إليه فوجدوه ميتا . أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة ، [قالت: أخبرنا ابن السراج] بإسناده عن موسى بن جعفر:

أن يزيد بن عبد الملك بينا هو مع حبابة أسر الناس بها حذفها بحبة رمان أو بعنبة وهي تضحك ، فوقعت في فيها فشرقت فماتت ، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت أو كادت تجيف ، ثم خرج فدفنها وأقام أياما ثم خرج حتى وقف على قبرها وقال:


فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا     فبالنفس أسلو عنك لا بالتجلد

ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج نعشه .

وقال يحيى بن أسقوط الكندي : ماتت حبابة فأحزنت يزيد بن عبد الملك ، فخرج في جنازتها فلم تقله رجلاه ، فأقام وأمر مسلمة فصلى عليها ثم لم يلبث بعدها إلا يسيرا حتى مات . [ ص: 112 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية