[ ص: 3 ] 
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله 
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة  
فمن الحوادث فيها : 
مخالفة أهل حمص  عاملهم إسحاق بن سليمان   ، وكان محمد  ولاه إياها ، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية ، فصرفه محمد  عنهم ، وولى عليهم مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي  ، فقتل عدة من وجوههم ، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار ، فسألوه الأمان فأجابهم وسكنوا ثم هاجوا ، فضرب أيضا أعناق عدة منهم . 
وفيها : عزل محمد  أخاه القاسم  عن جميع ما كان أبوه هارون  ولاه من عمل الشام  وقنسرين   والعواصم ، وولى مكانه خزيمة بن خازم  ، وأمره بالمقام بمدينة السلام . 
وفيها : بدأ الفساد بين  الأمين   والمأمون   ، وكان السبب في ذلك : أن  الفضل بن الربيع  ، فكر بعد مقدمه العراق  على محمد  ، منصرفا عن طوس  ، وناكثا للعهود التي كان  الرشيد  أخذها عليه لابنه عبد الله  ، فعلم أن الخلافة إن أفضت يوما إلى  المأمون  وهو حي لم يبق عليه ، فسعى في إغراء محمد  به ، وحثه على خلعه ، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى  ، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه ، بل كان عزمه الوفاء بما ضمن ، فلم يزل الفضل  يصغر عنده شأن  المأمون  ، ويزين له خلعه ، وأدخل معه  [ ص: 4 ] في ذلك علي بن عيسى بن ماهان  والسندي  وغيرهما ، فأزاله عن رأيه . 
فأول ما بدأ به محمد  عن رأي  الفضل بن الربيع  فيما دبر من ذلك ، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له وللمأمون   [والقاسم بن الرشيد   ] ، فلما بلغ ذلك إلى  المأمون  وعرف عزل القاسم  وإقدامه على التدبير على خلعه قطع البريد عن محمد  ، وأسقط اسمه من الطرز والضرب . 
وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار  لما انتهى إليه من الخبر عن  المأمون  وحسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم ، بعث في طلب الأمان لنفسه ، فسارع إلى ذلك هرثمة ، وخرج رافع فلحق  بالمأمون  ، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند  ، فأكرم  المأمون  رافعا ، ولما دخل رافع في الأمان استأذن هرثمة  المأمون  في القدوم عليه ، فعبر نهر بلخ  بعسكره والنهر جامد ، فتلقاه الناس ، وولاه المأمون الحرس ، فأنكر ذلك كله محمد  ، فبدأ بالتدبير على المأمون ، فكان أول ما دبر عليه أنه كتب للعباس بن عبد الله بن مالك   - وهو عامل  المأمون  على الري - يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريدا بذلك امتحانه - فبعث إليه ما أمره به ، وكتم ذلك عن المأمون وذي الرئاستين ، فبلغ المأمون ، فعزل العباس ، ثم وجه محمد إلى المأمون رسلا ثلاثة : العباس بن موسى بن عيسى  ، وصالح صاحب المصلى ، ومحمد بن عيسى بن نهيك  ، وكتب إليه كتبا معهم يسأله تقديم موسى  على نفسه ، ويذكر أنه قد سماه : الناطق بالحق ، وكان ذلك بمشورة علي بن عيسى بن ماهان  ، فرد  المأمون  ذلك ، وسمي  المأمون  في ذلك اليوم : الإمام . 
وكان سبب هذه التسمية : ما جاءه من خلع محمد  له ، ثم ضمن ذو الرئاستين  للعباس  ولاية الموسم وما شاء من أموال مصر  ، فما برح حتى أخذ منه البيعة  للمأمون  ، وكان يكتب إليهم الأخبار ، ويشير عليهم بالرأي ، ورجعت الرسل إلى  الأمين  وأخبروه بامتناعه ، وألح  الفضل بن الربيع  وعلي بن موسى  على محمد  في البيعة لابنه ، وخلع  المأمون ،  وكان  الأمين  يشاور في خلع  المأمون  فينهاه القواد ، وقال له خزيمة بن خازم :  لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك - فبايع لابنه موسى  ، وأحضنه علي بن عيسى ،  وولاه العراق   .  [ ص: 5 ] 
وكان أول ما أخذ له البيعة بشر بن السميدع ،  وكان واليا على بلد ، ثم أخذها صاحب مكة  وصاحب المدينة  على خواص من الناس قليل ، دون العامة ونهى  الفضل بن الربيع  عن ذكر عبد الله  والقاسم  ، والدعاء لهما على شيء من المنابر ، ودس لذكر عبد الله  والوقيعة فيه . ووجه إلى مكة  كتابا مع رسول من حجبة البيت في أخذ الكتابين اللذين كان هارون  اكتتبهما ، وجعلهما في الكعبة ، فقدم بهما عليه ، وتكلم في ذلك بقية الحجبة ، فلم يحفل بهم ، فلما أتاه بهما أجازه بجائزة عظيمة ومزقهما . 
وكان محمد قد كتب إلى  المأمون  قبل مكاشفة  المأمون  إياه بالخلاف يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان  سماها له ، وأن يوجه العمال إليها من قبله ، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد ليكتب إليه بخبره ، فاشتد ذلك على  المأمون  ، وشاور في ذلك  الفضل بن سهل  وأخاه الحسن  ، ثم كتب إليه : 
قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد ، وجعل أمره إلي ، ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة ، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة ، وجنود لا تستتبع طاعتها إلا بالأموال ، لكان في ذلك نظر أمير المؤمنين لعامته ، وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته ، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله ، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق ، ووكد به مأخوذ العهد . 
وكان  المأمون  قد وجه حارسه إلى الحد ، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء ، ولا يستعلم خبرا ولا يؤثر أثرا فحصن أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة ورهبة ، أو يحملوا على مخالفة . ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ، فيسلم ممن يدخل موغلا في هيئة السابلة والطارئة . وفتشت الكتب .  [ ص: 6 ] 
فوجه محمد  جماعة ليناظروا في منعه ما قد سأل ، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا ، ثم يلتمس منهم أن يبدلوا أو يحرفوا ، فيكون عليهم حجة وذريعة لما التمس . 
فلما صاروا إلى حد الري وجدوا تدبيرا مؤيدا ، وعقدا مستحكما ، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم . وكتب بخبرهم من مكانهم ، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين لا خبر يصل إليهم ، ولا خبر يخرج منهم ، وقد كانوا على نية بذل الأموال والولايات للمفارقين ، فوجدوا ذلك ممنوعا ، فوصلوا ومعهم كتاب الأمين وفيه : 
أما بعد ، فإن  الرشيد  وإن كان أفردك بالطرف ، وضم إليك من الكور ما ضم ، تأييدا لأمرك ، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك ، والحق في الفضول أن تكون مردودة في أهلها ، فكتبت تلط دون ذلك بما إن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك . 
فكتب  المأمون   : بلغني كتاب أمير المؤمنين ، ولم يكتب فيما جهل فأسأل عن وجهه ، ولم يسأل ما يوجبه حق فتلزمني الحجة بترك إجابته ، فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك ، وأنا مذعن بطاعتك . 
فلما وصل الكتاب تغيظ الأمين ، وكتب : 
أما بعد ، فقد بلغني كتابك غامطا لنعمة الله عليك ، متعرضا لحراق نار لا قبل لك بها ، فأعلمني رأيك . 
فقال  المأمون  لذي الرئاستين : إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده  الرشيد  لي بحضرة محمد - وهو مائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج ، فما ترى ؟ 
 [ ص: 7 ] 
فقال ذو الرئاستين : بك حاجة إلى مالك وأهلك ، فإن منعك صار إلى خلع عهده ، وحملك على محاربته ، وأنا أكره أن تكون أنت المستفتح باب الفرقة . 
قال : فاكتب إليه : أما بعد ، فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته ، فإذا كان للعامة ، فأحر بأن يكون ذلك بصنوه ، وقد علم أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها ، وأخبار لا تزال تنكث رأيها ، وقلة الخراج قبلي ، والأهل والمال والولد قبل أمير المؤمنين ، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية أمير المؤمنين فكان لهم والدا - بد من النزوع إلى كنفي ، وقد وجهت لحمل العيال وحمل المال ، فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلي لرقة في حمل ذلك . والسلام . 
فكتب  الأمين   : أما المال فمن مال الله ، وأمير المؤمنين يستظهر لدينه ، وبه إلى ذلك حاجة في تحصين أمور المسلمين ، فكان أولى به ، وأما الأهل فلم أر من حملهم ما رأيت من تعريضهم للتشتيت ، فإن رأيت ذلك وجهتهم مع الثقة . 
فلما وصل الكتاب قال ذو الرئاستين : الرأي حسم ما يوجب الفرقة ، فإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة وتعرضت بالتأييد والمعونة . 
ودس الفضل بن سهل أقواما يكاتبونه بالأخبار اختارهم لذلك ، وكان أول ما دبر الفضل أن أقام الأجناد ، وأشخص طاهر بن الحسين  ، فورد الري ، فنزلها ووجه الأمين عصمة بن أحمد بن سالم  إلى من بهمدان  أن يكون في ألف رجل ، وولاه حرب كور الجبل ، وأمره أن يقيم بهمدان  ، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة ، وجعل  الفضل بن الربيع  وعلي بن عيسى  يحثان محمدا  على خلع  المأمون   . 
وفي هذه السنة في ربيع الأول : عقد الأمين لابنه موسى  على جميع ما استخلف  [ ص: 8 ] عليه ، وجعل [صاحب ] أمره كله علي بن عيسى بن ماهان  ، وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك  ، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك  ، وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة  ، وعلى ديوان رسائله علي بن صالح   . 
وفيها : وثب الروم على ميخائيل  ، فهرب وترهب ، وكان ملكه سنتين ، وملك الروم عليهم ليون . 
وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس  ، وهو كان الوالي على مكة  والمدينة   . وقيل : حج بهم علي بن الرشيد   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					