الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر طرف من أخبار المأمون وسيرته

كان المأمون يحفظ القرآن ، وقد سمع الحديث من مالك بن أنس ، وحماد بن زيد ، وهشيم ، وغيرهم ، وكان له حظ من علوم كثيرة ، وأسند الحديث .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال : أخبرني الخلال قال :

حدثنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب قال : حدثنا أحمد بن عبد الله الوكيل قال : حدثنا القاسم بن محمد بن عباد قال : سمعت أبي يقول : لم يحفظ القرآن من الخلفاء إلا عثمان والمأمون ، وكان المأمون يقرأ القرآن كثيرا ، فروى عنه ذو الرئاستين أنه ختم في رمضان ثلاثة وثلاثين ختمة ، وكان يحفظ الحديث ويرويه .

أنبأنا محمد بن ناصر قال : أنبأنا عبد الله بن أحمد السمرقندي قال : أنبأنا [ ص: 53 ] عبد العزيز بن أحمد الكتاني قال : أنبأنا أبو حامد محمد بن عبد الله النيسابوري قال :

حدثنا أبو الحسن السليطي قال : حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى المروزي قال : حدثنا محمد بن قدامة السلمي صاحب ابن شميل ، حدثنا أبو حذيفة البخاري قال : سمعت المأمون أمير المؤمنين يحدث عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مولى القوم منهم" وقال مرة : "مولى القوم من أنفسهم" . قال محمد بن قدامة : بلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا الحديث عنه ، فأمر له بعشرة آلاف درهم .

أنبأنا زاهر [بن طاهر ] قال : أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي قال :

أخبرنا الحاكم أبو عبد الله [محمد بن عبد الله ] قال : حدثني أبو علي منصور بن عبد الله بن خالد المروزي قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حمدويه قال :

حدثنا إبراهيم بن يونس بن مروان الضبي قال : حدثني نصر بن منصور الطفاوي قال : حدثنا أبو عمر الحوضي قال : لما دخل المأمون مصر قام إليه فرج الأسود مولاه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي كفاك أمر عدوك ، ودان لك العراقان والشامان ومصر وخراسان ، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والعالم به . فقال : ويحك يا فرج ، قد بقيت لي خلة . قلت : وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال : جلوسي في عسكر ، ومستمل يجيء فيقول : من ذكرت رضي الله عنك ؟ فأقول : حدثنا الحمادان : حماد بن سلمة وحماد بن زيد قالا : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من عال ابنتين أو أختين أو ثلاثة حتى يمتن أو يموت عنهن كان معي في الجنة كهاتين" فأومأ حماد بن سلمة بالوسطى والإبهام .

قال الحاكم : وسمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ يقول :

سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق يقول : سمعت محمد بن سهل يقول : كنت بالمصيصة وبها المأمون أمير المؤمنين ، فأذن يوما [للناس فقام إليه ] شاب وبيده [ ص: 54 ] محبرة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، صاحب حديث منقطع به فقال له المأمون : أي شيء تحفظ من باب كذا ؟ فلم يذكر الفتى شيئا ، فما زال المأمون يقول : حدثنا هشيم ، وحدثنا أبو الأحوص ، وحدثنا وكيع ، حتى ذكر الباب ، ثم قال : وإيش تحفظ في باب كذا ؟ فلم يذكر الفتى شيئا ، فما زال المأمون يقول : حدثنا حجاج بن محمد ، وحدثنا فلان وفلان ، حتى ذكر الباب ، ثم التفت إلى الفضل فقال : أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من أصحاب الحديث ، أعطوه ثلاثة آلاف درهم .

أخبرنا هبة الله بن أحمد الحرسي قال : أخبرنا إبراهيم عن عمر البرمكي قال :

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن خلف قال : أخبرنا أحمد بن علي الطبري قال : حدثنا محمد بن داود قال : حدثنا محمد بن عون قال : سمعت ابن عيينة يقول :

جمع أمير المؤمنين العلماء وجلس للناس ، فجاءت امرأة فقالت : يا أمير المؤمنين ، مات أخي وخلف ستمائة دينار ، أعطوني دينارا واحدا وقالوا : هذا نصيبك . قال : فحسب المأمون ثم قال : هكذا نصيبك رحمك الله ، فقالت العلماء : كيف علمت يا أمير المؤمنين ؟ فقال لها : هذا الرجل خلف أربع بنات . قالت : نعم . قال : فلهما الثلثان أربعمائة وخلف والدة فلها السدس مائة ، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون دينارا ، بالله لك اثنا عشر أخا . قالت : نعم . قال : أصابهم ديناران ديناران ، وأصابك دينار .

[أخبرنا ابن ناصر قال : أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه قال : أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال : حدثنا المعافى بن زكريا قال : ] أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال : حدثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال : حدثني من سمع قحطبة بن حميد بن قحطبة يقول : حضرت المأمون يناظر محمد بن القاسم النوشجاني يقول في شيء ومحمد يفضي له ويصدقه . فقال له المأمون : أراك تنقاد لي إلى ما ترى أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ، ولو شئت أن أقيس الأمور بفضل بيان ، وطول لسان ، وأبهة الخلافة ، وسطوة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذبا ، وصوبت ، وإن كنت مخطئا وعدلت ، وإن كنت جائرا ، ولكن لا أرضى إلا بإزالة الشبهة ، وغلبة [ ص: 55 ] الحجة ، وإن شر الملوك عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم : صدق الأمير .

قال : أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال :

أخبرنا القاضي أبو العلا الواسطي قال : حدثنا علي بن عمر الحافظ قال : حدثنا الكوكبي قال : حدثنا أبو عكرمة الضبي قال : حدثني ابن الأعرابي قال : بعث إلي المأمون فصرت إليه وهو في بستان يحيى بن أكثم ، فرأيتهما موليين ، فجلست ، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة ، فسمعته يقول ليحيى : يا أبا محمد ، ما أحسن أدبه ، رآنا موليين فجلس ، ثم رآنا مقبلين فقام ثم رد السلام وقال : يا محمد ، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب فقلت : يا أمير المؤمنين ، قوله :


تريك القذى من دونها وهي دونه إذا ذاقها من ذاقها يتمنطق

فقال : أشعر منه الذي يقول : - يعني أبا نواس -


فتمشت في مفاصلهم     كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت     مثل فعل الصبح في الظلم
واهتدى ساري الظلام بها     كاهتداء السفر بالعلم

فقلت : فائدة يا أمير المؤمنين . فقال : أخبرني عن قول هند بنت عتبة :


نحن بنات طارق     نمشي على النمارق

من طارق هذا ؟ قال : فنظرت في نسبها فلم أجده . فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما أعرف في نسبها ! فقال : إنما أرادت النجم ، فانتسبت إليه لحسنها ، من قول الله عز وجل : والسماء والطارق . فقلت : فائدتان يا أمير المؤمنين قال : أنا بؤبؤ هذا الأمر [وأنت بؤبؤه ] . ثم دفع إلي بعنبرة وكان يقلبها في يده ، فبعتها بخمسة آلاف درهم . [ ص: 56 ]

حدثنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال : أخبرني الأزهري قال : حدثنا محمد بن جامع قال : حدثنا أبو عمر الزاهد قال : حدثنا المبرد قال : حدثني عمارة بن عقيل قال : قال لي ابن أبي حفصة الشاعر : أعلمت أن أمير المؤمنين لا يبصر الشعر ! ؟ فقلت : ومن يكون أفرس منه ! ؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه . قال : إني أنشدته شيئا أجدت فيه ، فلم أره تحرك له ، فأسمعه :


أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا     بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقلت : ما زدته على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة ، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها ، وهو المطوق بها ؟ ألا قلت كما قال جرير لعمر بن عبد العزيز :


فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه     ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : حدثنا أحمد بن علي قال : أخبرنا يحيى بن الحسن بن المنذر قال : حدثنا إسماعيل بن سعيد المعدل قال : حدثنا أبو بكر بن دريد قال : حدثنا الحسن بن خضر قال : سمعت ابن أبي دؤاد يقول : أدخل رجل من الخوارج على المأمون فقال : ما حملك على خلافنا ؟ قال : آية في كتاب الله عز وجل . قال : وما هي ؟ قال : قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال له المأمون : ألك علم بأنها منزلة ؟ قال : نعم . قال : وما دليلك ؟ قال : إجماع الأمة . قال :

فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل . قال : صدقت ، السلام عليك يا أمير المؤمنين .

أخبرنا عبد الرحمن [القزاز قال : ] أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال : حدثنا محمد بن الحسن بن محمد الموصلي قال : حدثنا عبد الله بن محمود المروزي قال : سمعت [ ص: 57 ] يحيى بن أكثم يقول : ما رأيت أكمل آلة من المأمون . وجعل يحدث بأشياء استحسنها من كان في مجلسه . ثم قال : كنت عنده ليلة أذاكره وأحدثه ، ثم نام وانتبه وقال : يا يحيى ، انظر أيش عند رجلي . فنظرت فلم أر شيئا . فقال : شمعة ، فتبادر الفراشون .

فقال ، انظروا ، فنظروا ، فإذا تحت فراشه حية بطوله ، فقتلوها ، فقلت : قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب . فقال : معاذ الله ، ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم :


يا راقد الليل انتبه     إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه     ثقة محللة العرى

فانتبهت ، فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب ، وإما بعيد . فتأملت ما قرب فكان ما رأيت .

أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قال : أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الفقيه قال :

أخبرنا ابن دودان قال : أخبرنا المرزباني قال : أخبرنا ابن دريد ، عن أبي العيناء قال :

قصد أعرابي المأمون فوقف على بابه سنة لا يصل إليه ، فصاح الأعرابي يوما : نصيحة ، نصيحة . قال : فأدخل على المأمون فقال له : يا أعرابي ، ما نصيحتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، رأيت البارحة رؤيا ، وقد أحببت أن تفسرها لي . فتبسم المأمون وقال : ما الرؤيا ؟ فأنشأ يقول :


إني رأيتك في منامي سيدي     يا ابن الإمام على الجواد السابق
وكسوتني حللا طرائف حسنها     يزهو لدي مع الكميت الفائق

فقال المأمون : ادفعوا إلى الأعرابي خلعة وفرسا كميتا بسرجه ولجامه . فلما دفع إليه قال : يا أمير المؤمنين :


وأجزتني بخريطة مملوءة     ذهبا وأخرى باللجين الفائق

فقال المأمون : يدفع إليه ألف دينار ، وألف درهم ، فقبض ذلك وأنشأ يقول : [ ص: 58 ]


وأجزتني بخريدة رومية     حسناء تشفع بالغلام الفائق

فقال المأمون : يدفع إليه ذلك ، ثم قال : يا أعرابي ، إياك أن ترى مثل هذه ، فربما لم تجد من يفسرها لك .

أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزار قال : أنبأنا أبو القاسم التنوخي قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله الدوري قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن حمزة بن أحمد الهاشمي قال : حدثني محمد بن أبي جمعة النحاس ، عن عمر بن أبي سليمان بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس قال : كنت يوما بين يدي المأمون ، فجعل لا يمر عليه غلام من غلمانه إلا أعتقه ، وعلى رأسه غلام نظيف ، نظيف الثياب ، وكنت أحب أن يعتقه فيمن يعتق ، فلما تنحى الغلام قلت : يا أمير المؤمنين ، رأيت لا يمر أحد من غلمانك إلا أعتقته وعلى رأسك غلام من صفته وحاله ، وكنت أحب أن تعتقه . فقال : حدثني أبي ، عن آبائه يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "طينة المعتق من طينة المعتق" والذي رأيته على رأسي حجام ، فكرهت أن يكون من طينتنا حجام .

أخبرنا ابن ناصر قال : أخبرنا ابن المبارك عبد الجبار قال : أخبرنا الجوهري قال :

أخبرنا ابن حيوية قال : حدثنا المقدمي ، عن الحارث بن محمد قال : أخبرني بعض أصحابنا قال : بكر أحمد بن أبي خالد يقرأ على المأمون قصصا ، فجاع ، فمرت به قصة فيها فلان بن فلان اليزيدي ، فقرأ : الثريدي . فقال المأمون : يا غلام ، صحفة مملوءة ثريدا لأبي العباس ، فإنه أصبح جائعا . فاستحيى وقال : ما أنا بجائع ، ولكن صاحب القصة أحمق ، نقط على الياء ثلاث نقط . فقال : ما أنفع جمعه لك . فأحضرت الصحفة مملوءة ثريدا وعراقا وودكا ، فخجل أحمد ، فقال له المأمون : بحياتي لما ملت إليها فأكلت . فعدل فأكل حتى اكتفى وغسل يده ، وعاود القراءة ، ومرت قصة فلان بن فلان الحمصي ، فقرأ : الخبيصي فقال المأمون : يا غلام ، جام مملوء خبيصا لأبي العباس ، فإن طعامه كان مبتورا . فاستحيى وقال : يا سيدي ، صاحب القصة أحمق ، فتح الميم فصارت سنتين . فقال : لولا حمقه وحمق صاحبه مت اليوم جوعا ، فأتي بجام مملوء خبيصا ، فخجل ، فقال المأمون : بحياتي ألا ملت نحوه فأكلت . فأكل وغسل يده ، وعاود القراءة ، فما أسقط حرفا حتى انقضى المجلس . [ ص: 59 ]

وقال محمد بن الجهم : دعاني المأمون فقال : أنشدني بيت مدح نادر . فأنشدته :


يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها     والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فقال : قد وليتك همذان ، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته :


قبحت مناظره فحين خبرته     حسنت مناظره لقبح المخبر

فقال : قد وليتك الدينور ، فأنشدني بيت مرثية نادرا ، فأنشدته :


أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه     فطيب تراب القبر دل على القبر

فقال : قد وليتك نهاوند ، فأنشدني بيت غزل . فأنشدته :


حب مجد وحبيب يلعب     والقلب ما بينهما يذهب



التالي السابق


الخدمات العلمية