الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن كلام المأمون :

أخبرنا محمد بن ناصر قال : أخبرنا أبو المعالي أحمد بن محمد البخاري قال :

أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال : أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه قال : أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن توتة قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا علي بن محمد القرشي قال : حدثني ابن هشام قال : قال لي المأمون : يا علي ، الملوك تحتمل لأصحابها كل شيء خلا ثلاث خصال . قلت : وما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال : القدح في الملك ، وإفشاء السر ، والتعرض للحرمة .

وبلغنا أن المأمون جمع ولده يوما فقال : يا بني ، ليعلم الكبير منكم إنما عظم قدره بصغار عظموه ، وقويت قوته بضعاف أطاعوه ، وشرفت منزلته بعوام اتضعوا له ، فلا يدعونه تفخيم المفخم منهم إياه إلى تصغيره ، وتعزيز أمره إلى تذليله ، ولا تستأثرن بعائده ورفق دونه ، ولا يولعن بتسميته عمدا كما سمت الأعاجم وليا وأخا ، فإن الشيء الذي قوامه من أجزاء خسيسة ، ومعان مذمومة ، فهو أيضا خسيس مذموم ، وكل أمر من أولئك جزء من عدده ، وعماد من عماد أمره ، فإذا انحلت أجزاؤه ، وزالت دعائمه مال العماد ، وتهدم الكل ، وقد قيل إن من ملك أحرارا كان أشرف ممن ملك عبيدا مستكرهين ، يا بني ، ارجعوا فيما اشتبه عليكم من التدبير إلى آراء الحزمة المجربين ، فإنهم مرآتكم يرونكم ما لا ترون ، قد صحبوا الدهور ، وكفوكم الأمور بالتجارب ، وقد [ ص: 60 ] قيل : إن من جرعك مر التبري أشفق عليك ممن أوجرك حلق النقم ، ومن خوفك لتأمن أبر ممن أمنك لتخاف .

وقال : الإخوان ثلاث طبقات ، فأخ كالغذاء الذي تحتاج إليه في كل يوم وفي كل وقت ، وهو الأخ العاقل الأديب ، وأخ كالدواء تحتاج إليه عند الداء ، وهو الأخ الأريب الذي يصادق المودة ، وأخ كالداء الذي لا يحتاج إليه ، وهو الأحمق .

وكان المأمون يقول : أعظم الناس سلطانا من تسلط على نفسه فوليها بمحكم التدبير وملك هواه فحمله على محاسن الأمور ، وأشرب معرفة الحق فانقاد للواجب ، فوقف عند الشبهة حتى استوضح مقر الصواب فتوخاه ورزق عظيم الصبر فهان عليه هجوم النوائب تأميلا لما بعدها من عواقب الرغائب ، وأعطي فضيلة التثبت ، فحبس عزب لسانه ، ومما ينبغي الاحتياط فيه اختيار الكفاة من الأعوان ، وإنزالهم منازلهم ، والانتصار بهم على ما يطيقونه . وأنشد :


من كان راعيه دينا في حلوبته فهو الذي نفسه في أمره ظلما     ترجو كفايته والغدر عادته
ومن ولايته يستجني الندما

وقيل للمأمون : أي المجالس أحسن ؟ قال : ما نظر فيه إلى الناس .

وبعث المأمون رجلا ليسبق الحاج ، فجاء بعد جماعة وكتب إلى المأمون رقعة ليسأله فيها شيئا ، وكتب عليها : سابق الحاج . فنقط المأمون تحت الباء نقطة أخرى وردها إليه .

ورفع [رجل ] صوته في مجلسه اسمه عبد الصمد ، فقال :


لا ترفعن الصوت يا عبد الصمد     إن الصواب في الأسد الأشد

أخبرنا زاهر بن طاهر قال : أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا :

أنبأنا أبو عبد الله الحاكم قال : حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن الضبي قال : [ ص: 61 ]

حدثنا الحسن بن محمد الكاتب قال : ذكر بشر بن الوليد القاضي المأمون فقال : كان والله الملك حقا ، ما رأيت خليفة كان الكذب عليه أشد منه على المأمون ، وكان يحتمل كل آفة تكون في الإنسان ولا يحتمل الكذب . قال لي يوما : صف لي أبا يوسف القاضي ، فإني لم أره ولم أستكثر منه . فوصفته له ، فاستحسن صفته وقال : وددت أن مثل هذا يحضرنا فنتجمل به . ثم قال : ما شيء من الخلافة إلا وأنا أحسن [أن ] أدبره ، وأبلغ منه حيث أريد ، وأقوى عليه ، إلا أمر أصحابك - يعني القضاة - فو الله لقد اجتهدت وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام ، ويتوقى سوء عاقبته ، ويتكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع والرياء . فقلت : يا أمير المؤمنين ، والله ما أدري ما أقصد فأجيب بحبسه . فقال : لكني أدريه ، ولا والله ما تجيبني فيه بجواب مقنع أبدا . ثم ابتدأ فقال :

ولينا رجلا - أشرت به علينا - قضاء الأبلة ، وأجرينا عليه ألف درهم ، ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال ، فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم ، فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم ! ؟

وولينا رجلا - أشار به محمد بن سماعة - دمشق ، وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر ، فأقام بها أربعة عشر شهرا ، ووجهنا من يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره ، فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك .

وولينا رجلا - أشار به غيركما - نهاوند ، فأقام بعد عشرين شهرا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا ، وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة دينار ، وذلك سوى نتاج فكر اتخذه . هات ما عندك من الجواب .

قلت : والله يا أمير المؤمنين ما عندي جواب . فقال : ألم أعلمك أنه لا جواب عندك ! ؟ وأكثر من هذا أنه ترغب لي علي بن هشام في رجل أوليته القضاء ، فأعلمني [ ص: 62 ] أنه وجده ، فسرني والله ، وسري عني ، ورجوت أن يكون بحيث أحب ، فأمرته بإحضاره ، فغدا علي فسألته عن الرجل ، فذكر أنه لم يجده على الصفة التي يحب ، فسألته عن السبب في ذلك بعد وصفه الأول ، فوصف أن الذي وصفه لي علي بن مقاتل ، وأنه كان عنده من أهل العفاف والستر ، فانصرف علي ، ولم يحضره ، ووجه إليه وهو لا يشك أنه يظهر كراهة لما أردناه عليه ، ويستعفي تصنعا ، فخبره بما أردناه له ، فوثب إلى رأسه فقبله ، فقضى أنه لا خير عنده ، لأنه لو كان من أهل الخير لعد الذي دعا إليه إحدى المصائب والرزايا ، فقلت له : جزاك الله عن إمامك ونفسك خير ما جزى امرأ عن إمامه ونفسه ودينه .

قال بشر : فبهت ولم أجر بكلمة ، فقال لي : ولكن إذا أردت العفيف النظيف التقي النقي الطاهر الزكي - يعني الحسين - وهو بحالته التي فارقنا عليها ، والله ما غير ولا بدل .

أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه ! ؟ أما ظاهره فأعف خلق الله . فقلت : والله يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب ، فإنه كان يفحص عن عماله وعن دقيق أسرار حكامه فحصا شافيا ، وكان لا يخفى عليه ما يفيده كل امرئ منهم وما ينفق ، وكل من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره . فقال : يا بشر ، إن أهم الأمور كلها إلي أمور الحكام ، إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام ، ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين ، وأني أجوع يوما وأشبع يوما .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان الواعظ قال : حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثني أحمد بن الحسن الكسائي قال : حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني قال : حدثني يحيى بن أكثم قال : بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل ، فقمت لأشرب ماء ، فرآني المأمون فقال : ما لك ليس تنام يا يحيى ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، أنا والله عطشان . فقال : ارجع إلى موضعك . فقام والله إلى البرادة فجاءني بكوز ، فقام على رأسي فقال : اشرب يا يحيى . فقلت : يا أمير المؤمنين ، فهلا وصيف أو وصيفة ! فقال :

إنهم نيام . قلت : فأنا كنت أقوم أشرب ! فقال لي : لؤم بالرجل أن يستخدم ضيفه . ثم [ ص: 63 ] قال : يا يحيى قلت : لبيك يا أمير المؤمنين . قال : ألا أحدثك . قلت : بلى يا أمير المؤمنين . فقال : حدثني الرشيد قال : حدثني المهدي قال : حدثني المنصور ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : حدثني جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سيد القوم خادمهم" .

حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرنا الجوهري قال :

أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال : حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد ، عن يحيى بن أكثم قال : ما رأيت أكرم من المأمون ، بت عنده ليلة فعطش ، فكره أن يصيح بالغلمان ، فرأيته قد [قام ] قليلا قليلا إلى البرادة وبينه وبينها بعد ، فشرب ورجع .

قال يحيى بن أكثم : ثم بت عنده ونحن بالشام ، فأخذ المأمون سعال ، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه . ثم حملني آخر الليل النوم ، فكان له وقت يستاك فيه ، فكره أن ينبهني ، فلما ضاق الوقت عليه تحركت . فقال : الله أكبر يا غلمان ، نعل أبي محمد .

قال يحيى : وكنت أمشي معه يوما في ميدان البستان والشمس علي وهو في الظل ، فلما رجعنا قال لي : كن الآن في الظل . فأبيت عليه ، فقال : أول العدل أن يعدل الملك في بطانته ثم الذين يلونهم ، حتى يبلغ الطبقة السفلى .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال : أخبرنا محمد بن علي المقرئ قال : أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال : سمعت أبا بكر بن داود بن سليمان الزاهد يقول : سمعت محمد بن عبد الرحمن الشامي يقول : سمعت أبا الصلت عبد السلام يقول : حبسني المأمون ليلة ، فكنا نتحدث حتى ذهب من الليل ما ذهب ، وطفئ السراج ونام القيم الذي كان يصلح السراج ، فدعاه فلم يجبه - وكان نائما - فقلت : يا أمير المؤمنين أصلحه . فقال : لا ، فأصلحه هو . ثم انتبه الغلام ، فظننت أنه [ ص: 64 ] يعاقبه ، فسمعته يقول : ربما أكون في المتوضأ فيشتموني ولا يدرون أني أسمع فاعف عنهم .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال : أخبرنا الجوهري قال :

أخبرنا محمد بن العباس قال : حدثنا الصولي قال : حدثنا عون بن محمد قال : حدثنا عبد الله بن البواب قال : كان المأمون يحلم حتى يغيظنا ، وأنه في بعض الأوقات جلس يستاك على دجلة من وراء ستر ونحن قيام بين يديه ، فمر ملاح وهو يقول بأعلى صوته :

أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه ! ؟ قال : فو الله ما زاد على أن تبسم وقال : ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل ! ؟ .

[أخبرنا ] أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت قال : أخبرنا علي بن أبي علي المعدل قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الرحيم المازني قال :

حدثنا الحسين بن القيم الكوكبي قال : حدثنا أبو الفضل الربعي قال : لما ولد أبو جعفر بن المأمون دخل المهنئون على المأمون فهنأوه بصنوف التهاني ، وكان فيمن دخل عليه العباس بن الأحنف ، فمثل قائما بين يديه ، ثم أنشأ يقول :


مد لك الله الحياة مدا     حتى يريك ابنك هذا جدا
ثم يفدى مثل ما تفدى     كأنه أنت إذا تبدا
أشبه منك قامة وقدا     مؤزرا بمجده مردى

فأمر له بعشرة آلاف درهم .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال : أخبرنا جعفر بن أحمد قال : أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أحمد بن مروان قال : حدثنا الحسن بن علي الربعي قال : حدثني قحطبة بن حميد بن الحسن بن قحطبة قال : كنت [ ص: 65 ] واقفا على رأس المأمون يوما وقد قعد للمظالم ، فأطال الجلوس حتى زالت الشمس ، وإذا امرأة قد أقبلت تعثر في ذيلها حتى وقفت على طرف البساط ، فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم ، فأقبل يحيى عليها فقال : تكلمي . فقالت : يا أمير المؤمنين ، قد حيل بيني وبين ضيعتي ، وليس لي ناصر إلا الله . فقال لها يحيى بن أكثم : إن الوقت قد فات ، ولكن عودي يوم الخميس . قال : فرجعت ، فلما كان يوم الخميس قال المأمون : أول من يدعى المرأة المظلومة . فدعا بها . فقال : أين خصمك ؟ قالت : واقف على رأسك يا أمير المؤمنين ، قد حيل بيني وبينه . وأومأت إلى العباس ابنه . فقال لأحمد بن أبي خالد : خذ بيده وأقعده معها . ففعل ، فتناظرا ساعة حتى علا صوتهما عليه فقال لها أحمد بن أبي خالد : إنك تناظرين الأمير أعزه الله بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، فأخفضي عليك . فقال له المأمون : دعها يا أحمد ، فإن الحق أنطقها ، والباطل أخرسه . فلم تزل تناظره حتى حكم لها المأمون عليه ، وأمر برد ضيعتها ، وأمر ابن أبي خالد أن يدفع لها عشرة آلاف درهم .

وروى الصولي : أنه رفع إلى المأمون أن خادمه رشد الأسود يسرق طساسه وأباريقه ، وكان على وضوئه ، فعاتبه في ذلك فقال : رزقي يقصر عني ، فأضعفه له . ثم فقد بعد ذلك طستا وإبريقا ، فقال : بعني ويحك الشيء إذا أخذته . قال : فاشتر مني هذا الطست وهذا الإبريق . قال : بكم ؟ قال : بخمسة دنانير . فقال : ادفعوا له خمسة دنانير .

فقال له رشد : بقي والله هذان ما بقي الزمان ، فقال له المأمون : قد رأيت المعاملة ، فكل من تعلم أنه يسرق مني شيئا فقل له يبيعنيه .

وقال المأمون : أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب .

وقال المأمون : أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب .

وفي هذه السنة : كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان . [ ص: 66 ]

وفيها : خرج خارجي يقال له الهرش في ذي الحجة يدعو بزعمه إلى الرضا من آل محمد ، ومعه جماعة من سفلة الناس ، وجمع كثيرا من الأعراب فأتى النيل ، فجبى الأموال ، وأغار على التجار ، وانتهب القرى ، وساق المواشي .

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي .

التالي السابق


الخدمات العلمية