الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها :

أن محمدا وجه إلى المأمون أحمد بن مزيد في عشرين ألفا ، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفا ، وأمرهما أن يدافعا طاهرا عن حلوان ، وكان قد نزلها ، فنزل بخانقين ، فكان طاهر يبعث العيون إلى عسكريهما ، فيأتونهم بالأراجيف ، ويحتال في وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا ، وانتقض أمرهم ، وقاتل بعضهم بعضا ، فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهرا ، وأقام طاهر بحلوان ، فأتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه ، والتوجه إلى الأهواز . فسلم ذلك إليه ومضى إلى الأهواز وأقام هرثمة بحلوان .

وفي هذه السنة : رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره ، وذلك أنه لما قتل علي بن عيسى وعبد الرحمن بن جبلة وبشره الفضل بذلك عقد له في رجب من هذه السنة على المشرق طولا وعرضا ، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم ، وسماه ذا الرئاستين ، وكان على سيفه مكتوب من جانب : رئاسة الحرب ، ومن جانب : رئاسة التدبير .

وفيها : ولى محمد بن هارون بن عبد الملك بن صالح بن علي الشام ، وأمره بالخروج إليها ، وفرض له من رجالها جنودا يقال بهم طاهرا وهرثمة ، فسار حتى بلغ [ ص: 24 ] الرقة ، فأقام بها ، وأنفذ كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة ، فقدموا عليه ، فأجازهم ، وخلع عليهم ، وحملهم ، ثم جرى بين الجند خصومات ، فاقتتلوا وتفرقوا .

وفي هذه السنة : خلع محمد بن هارون ، وأخذت عليه البيعة للمأمون ببغداد ، وحبس في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن المنصور .

وسبب ذلك : أن عبد الملك بن صالح لما جمع الناس ، ثم تفرقوا مات بالرقة ، فرد الجند الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان إلى بغداد ، وكان ذلك في رجب ، فبعث إليه في الليل محمد بن هارون ، فقال للرسول : والله ما أنا بمعبر ولا مسامر ولا مضحك ولا وليت له عملا ، فأي شيء يريد مني في هذه الساعة ؟ إذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله .

فأصبح الحسين ، فوافى باب الجسر ، واجتمع إليه الناس ، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن علي ، وباب سوق يحيى ، وقال : إن خلافة الله لا تجوز بالبطر ، وإن محمدا يريد أن يوتغ أديانكم ، وينكث بيعتكم ، وبالله إن طالت به مدة ليرجعن وبال ذلك عليكم ، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم ، فو الله ما ينصره منكم ناصر إلا خذل .

ثم أمر الناس بعبور الجسر ، فعبروا حتى صاروا إلى سكة باب خراسان ، واجتمع أهل الأرباض مما يلي باب الشام ، وتسرعت خيول من خيول محمد إلى الحسين ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم كشفهم الحسين ، فخلع الحسين بن علي محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة من رجب سنة ست وتسعين . وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل ، وغدا العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي إلى محمد ، فوثب به ، ودخل عليه وأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر ، فحبسه هناك ، ثم وثب على أم جعفر ، فأمرها بالخروج من قصرها إلى قصر أبي جعفر فأبت ، فقنعها بالسوط وسبها ، ثم [ ص: 25 ] أدخلت المدينة مع ابنها ، فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق ، وهاج الناس بعضهم في بعض ، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشام وقال :

والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا ، ويتولى هذا الأمر دوننا ، وما هو بأكبرنا سنا ، ولا أكرمنا حسبا ، وإني أولكم أنقض عهده ، وأظهر التغير عليه ، فمن كان رأيه معي فليعتزل معي .

وقام أسد الحربي فقال : هذا يوم له ما بعده ، إنكم قد نمتم [وطال نومكم ] فقدم عليكم غيركم ، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره ، وأذهب بذكر فكه وإطلاقه .

وجاء شيخ كبير فقال : أقطع محمد أرزاقكم ؟ قالوا : لا . قال : فهل قصر بأحد من رؤسائكم ؟ قالوا : لا . قال : فما بالكم خذلتموه ! انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه .

فنهضوا فقاتلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالا شديدا ، وأسر الحسين ودخل أسد الحربي على محمد ، فكسر قيوده ، وأقعده في مجلس الخلافة ، فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح ، فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ، ووعدهم ومناهم ، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا ، وأتى الحسين بن علي فلامه محمد على خلافه ، وقال : ألم أقدم أباك على الناس ، وأوليه أعنة الخيل ، وأملأ يده بالأموال ! قال : بلى : قال : فبم استحققت منك أن تخلع طاعتي ، وتندب الناس إلى قتالي . قال : الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن به . قال : فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك ، وولاك الطلب بثأر أبيك ، ومن قتل من أهل بيتك .

ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه ، وولاه ما وراء بابه ، وحمله على مراكب ، وأمره [ ص: 26 ] بالمسير إلى حلوان ، فخرج فوقف على باب الجسر حتى إذا خف الناس قطع الجسر وهرب في نفر من مواليه ، فنادى محمد في الناس فركبوا في طلبه ، فأدركوه .

فلما بصر بالخيل نزل فصلى ركعتين وتحرم ، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في كلها يهزمهم ويقتل فيهم . ثم إن فرسه عثر به فسقط ، وابتدره الناس فقتلوه وأخذوا رأسه . وذلك في نصف رجب في طريق النهرين ، وفي الليلة التي قتل فيها الحسين بن علي هرب الفضل بن الربيع ، وجددت البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة ليلة خلت من رجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية