الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب ذكر الفرق بين السلع التي يجب على متلفها مثلها، والسلع التي يجب على متلفها قيمتها

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: الشيء المتلف شيئان: شيء على المتلف (فيه قيمته) إذا أتلفه، وشيء يجب على متلفه مثله إذا أتلفه، والأصل فيما يجب فيه القيمة من الحيوان وغير ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه (قيمة) فأعطى شركاءه حصصهم" . [ ص: 43 ]

                                                                                                                                                                              وبهذا قال عوام أهل العلم، وأما الذي على متلفه مثل ما أتلف فمثل الحنطة والشعير والتمر والسمن والزبيب وما أشبه ذلك، وهذا مذهب مالك بن أنس وأهل المدينة والشافعي وأبي ثور والنعمان ويعقوب ومحمد ولا نعلم أحدا خالف ذلك فإن كان شيئا له مثل ولم يوجد في المكان الذي اختصما فيه ففي ذلك قولان: أحدهما: أن عليه قيمتها يوم يختصمان فيه، هذا قول أصحاب الرأي، وأبي ثور قالوا: لأن على الغاصب أن يعطيه (مثلها) يوم يخاصمه، فإذا لم يقدر على مثلها كان عليه القيمة يومئذ .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني: قول ابن القاسم صاحب مالك. قال: ليس عليك إلا مثله تأتي به. ذلك لازم إلا أن يصطلحا على شيء .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: الأول أصح، لأن عليه مثل الشيء، فإن لم يوجد ما يجب عليه غرم قيمته، ولا يجوز أن يعطل الحكم فيه، ويحال بين الرجل المتلف عليه الشيء، وبين حقه بغير حجة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد تكلم بعض أهل الحديث في هذا الباب، واحتج بحديث حميد عن أنس .

                                                                                                                                                                              9688 - أخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا حميد، عن أنس قال: أهدى بعض [ ص: 44 ] أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قصعة فيها ثريد، وهو في بيت بعض نسائه فضربت القصعة فوقعت فانكسرت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الثريد من الأرض فيرده في القصعة ويقول: "غارت أمكم"، ثم [انتظر] حتى جاءت بقصعة أخرى صحيحة فأخذها فأعطاها صاحبة القصعة المكسورة .

                                                                                                                                                                              9689 - أخبرنا أبو بكر قال: حدثنا (علان) بن المغيرة، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند (بعض) نسائه إذ أرسلت بعض أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت الأخرى يدها فكسرت الصحفة، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمها، فجعل (يعد أو) يعيد فيها الطعام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غارت أمكم"، وقال: "كلوا"، وجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءت الأخرى بصحفتها، فلما أكلوا دفع إليهم صحفة صحيحة، ودفع المكسورة إلى الأخرى التي كسرت الصحفة، وحضرت الصلاة فقال: "إذا (قرب) العشاء وحضرت (الصلاة) فابدؤوا بالعشاء" . [ ص: 45 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد تكلم بعض أهل الحديث في حديث أنس هذا بألوان من الكلام، ذكر أن هذا الحديث رواه عن حميد : بشر بن المفضل، وخالد بن الحارث، وهما من (جلة) علماء البصرة (و) حفاظهم، وليس فيه سماعه من أنس، وإنما ذكر سماعه من أنس يحيى بن أيوب، ويحيى قد تكلم في حديثه .

                                                                                                                                                                              9690 - قال أبو بكر: حدثنا ابن داود، عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يحيى بن أيوب [المصري] فقال: كان يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان ذكر الوهم في حفظه فذكرت له من حديثه، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ [ ص: 46 ] في الوتر.. " فقال: ها.... من يحتمل هذا؟! قال أبو بكر: ثم تكلم هذا المتكلم قال: ولا أحسب (هذا) من جنس الحكم، لأن البيوت التي كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تسكنها كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ) فأضاف الله البيوت التي كانت فيها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون الله - عز وجل - إنما أضاف تلك البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسكنها، فعلى الظاهر أن الصحفة كانت من [ماله] ، وكذلك الأخرى التي دفعها بصحفته، فإذا كان كذلك، فله أن يعطي من أحب، ويمنع من أحب، وعلى أن الصحاف تختلف، منها الصغار والكبار، وتختلف قيمتها وأجناسها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: والذي نقول به ونعتمد عليه، أن من كسر صحفة كسرا صغيرا أو كبيرا قومت الصحفة صحيحة ومكسورة، وكان على الجاني [ ص: 47 ] ما نقصها الكسر، ويأخذ مالك الصحفة صحفته، وهذا الجواب في كل ثوب وإناء مكسور .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم في هذه المسائل: فقالت طائفة: أن من غصب ثوبا فقطعه قطعا صغيرا أو كبيرا فعليه ما (نقصه) القطع، ويأخذ صاحب الثوب ثوبه. (هكذا) قول الشافعي وأبي ثور .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي: إذا شق الرجل (لرجل) ثوبا (شقا) صغيرا أو كبيرا [يأخذ] ما بين طرفيه طولا أو عرضا، أو كسر له متاعا [فرضضه] ، أو كسره كسرا صغيرا [أو كبيرا، أو جنى] على مملوك فأعماه، أو قطع يده، أو شجه (موضحة) فذلك كله سواء، ويقوم المتاع كله، والحيوان غير الرقيق، صحيحا ومكسورا، أو صحيحا (و) مجروحا قد برأ من جرحه، ثم يعطى مالك المتاع [ ص: 48 ] والحيوان (فضل) ما بين قيمته صحيحا ومكسورا ومجروحا، فيكون ما جنى عليه من ذلك ملكا له نفعه أو لم ينفعه، ولا يملك (أحد) بالجناية شيئا جنى عليه (و) لا يزول ملك المالك إلا أن يشاء، ولا يملك رجل شيئا (إلا أن يشاء) إلا في الميراث .

                                                                                                                                                                              وأما ما جنى عليه من العبيد فيقومون صحاحا قبل الجناية، ثم ينظر إلى الجناية، فيعطون أرشها من قيمة العبد صحيحا كما يعطى الحر أرش الجناية عليه من ديته بالغا (من ذلك) ما بلغ، وإن كانت قيما (كما) يأخذ الحر ديات وهو حي. قال الله - جل ذكره - : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وقال: ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ) (ولا) نعلم أحدا من المسلمين خالف في أنه لا يكون على أحد أن يملك شيئا إلا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فمن (أين) غلط من زعم أنه إن (جنى) على عبدي فلم يفسده، أخذته وقيمة ما نقصه، وإن زاد [ ص: 49 ] الجاني معصية (الله فأفسده) سقط (حقي إلا أن أسلمه بملكه فيسقط) حقي بالفساد حين عظم، ويثبت حين صغر، و (يملك) على حين [عصى] فأفسد فلم يملك بعضا ببعض ما أفسده، فهذا القول خلاف لأصل حكم الله تبارك وتعالى بين المسلمين في أن المالكين على ملكهم، لا يملك عليهم إلا برضاهم، وخلاف المعقول والقياس .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وبه نقول للحجج [التي] بدأنا بذكرها في أول هذا الكتاب من تحريم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الأموال، وبه قال أبو ثور ، وكان مالك بن أنس يقول: في رجل (أفسد) ثوبا (قال) : إن كان الفساد يسيرا (رأيت أن يرفوه ثم) يغرم ما نقصه بعد الرفو (وإن كان الفساد شيئا كثيرا فإنه يأخذ الثوب ويغرم قيمته) يوم أفسده لرب الثوب، وكذلك في المتاع مثل ما في الثوب .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: إذا اغتصب من رجل ثوبا فقطعه قميصا [ ص: 50 ] ولم يخطه، ثم (جاء) رب الثوب قال: رب الثوب بالخيار، إن شاء ضمن قيمة ثوبه يوم غصبه، وكان الثوب للغاصب، وإن شاء أخذ ثوبه وضمنه ما نقصه، وكذلك إن غصبه ثوبا فقطعه، فإن اغتصب منه ثوبا (فتخرق) في يده، فجاء رب الثوب فقال: أنا أضمن الغاصب قيمة الثوب، قال: إن كان الخرق [صغيرا، يأخذ ثوبه ويضمن الغاصب ما نقص الخرق وإن كان الخرق] خرقا قد أفسد الثوب كله، فصاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه، وكان الثوب للغاصب، وإن شاء أخذ ثوبه وأخذ ما نقصه. قال: وإن اغتصب من رجل دابة فقطع رجلها أو يدها، ثم جاء رب الدابة فطلب دابته. فقال: الغاصب ضامن لقيمة الدابة، لأن هذا استهلاك للدابة ولا يشبه هذا الأول، فكذلك لو كانت الدابة بقرة أو شاة أو جزورا فقطع رجلها أو [ذبحها] .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وليس بين الخرق الكبير والصغير فرق، وليس مع من فرق بينهما حجة، والذي [أقول] به أن بين قطع يد الحمار والبغل، وبين قطع (يد) البعير والشاة [فرقا] ، وذلك أن الحمار والبغل إذا [ ص: 51 ] قطع من أيهما قطع يديه أو رجليه زمن وبطل ولم ينتفع به، فعليه قيمته، لأن الباقي منه بعد قطع اليدين أو الرجلين لا ثمن له ولا منفعة فيه، وإذا قطع ذلك من بعير أو شاء أمكن ذكاتها، وانتفع الذكاة بلحومها، فعليه إذا فعل ما ذكرناه بالبغل والحمار قيمته كاملا، وعليه إذا فعل ذلك بالبعير أو الشاة ما دخله من النقص، والله أعلم .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية