الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6990 [ ص: 14 ] ص: قالوا : وقد روي في إباحة الشعر آثار ، فمنها : ما حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال : ثنا معن بن عيسى ، قال : حدثني عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " لما دخل رسول الله -عليه السلام - عام الفتح رأى نساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر ، فتبسم فقال : يا أبا بكر ، ، كيف قال حسان بن ثابت ؟ ؟ فأنشده أبو بكر : - رضي الله عنه - :

                                                عدمت بنيتي إن لم . . . تروها تثير النقع من كتفي كداء

                                                    ينازعن الأعنة مسرعات
                                                . . . يلطمهن بالخمر النساء



                                                هكذا حدثنا أحمد بن داود ، ، وأهل العلم بالعربية ، يروون البيت الأول على غير ذلك :

                                                تثير النقع موعدها كداء .

                                                حتى تستوي قافية هذا البيت مع قافية البيت الذي بعد . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ادخلوها من حيث قال " .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال أهل المقالة الثانية : قد روي في إباحة قول الشعر وإنشاده أحاديث وآثار كثيرة ، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمر .

                                                أخرجه بإسناد صحيح ، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - .

                                                وهذا الحديث فيه دلالة صريحة على إباحة إنشاد الشعر وروايته وسماعه ، ألا ترى كيف قال -عليه السلام - : "يا أبا بكر ، كيف قال حسان بن ثابت ؟ " ثم أنشد أبو بكر - رضي الله عنه - ما قاله حسان ، في قوله :

                                                عدمت بنيتي

                                                . . . . إلى آخره
                                                . وهذان البيتان من قصيدة ساقها كلها مسلم في "صحيحه " : ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، قال : أخبرني أبي ، عن جدي ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، قال : حدثني سعيد بن أبي هلال ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "اهجوا قريشا ; فإنه أشد عليها من رشق بالنبل ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : اهجهم ، فهجاهم ، فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه ،

                                                [ ص: 15 ] قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله -عليه السلام - : لا تعمل ; فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسبا يلخص لك نسبي ، فأتاه حسان ثم رجع فقال : يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فسمعت رسول الله -عليه السلام - يقول لحسان : إن روح القدس لا تزال تؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله .

                                                وقالت : سمعت رسول الله -عليه السلام - يقول : هجاهم حسان فشفى واستشفى ، قال حسان :


                                                هجوت محمدا فأجبت عنه . . . وعند الله في ذاك الجزاء


                                                هجوت محمدا برا حنيفا . . . رسول الله شيمته الوفاء


                                                فإن أبي ووالده وعرضي . . . لعرض محمد منكم وقاء


                                                ثكلت بنيتي إن لم تروها . . . تثير النقع من كنفي كداء


                                                ينازعن الأعنة مصعدات . . . على أكتافها الأسل الظماء


                                                تظل جيادنا متمطرات . . . تلطمهن بالخمر النساء


                                                فإن أعرضتم عنا اعتمرنا . . . وكان الفتح وانكشف الغطاء


                                                وإلا فاصبروا لضراب يوم . . . يعز الله فيه من يشاء


                                                وقال الله قد أرسلت عبدا . . . يقول الحق ليس به خفاء


                                                وقال الله قد أرسلت جندا . . . هم الأنصار عزمتها مضاء


                                                لنا في كل يوم من معد . . . سباب أو قتال أو هجاء


                                                فمن يهجو رسول الله منكم . . . ويمدحه وينصره سواء


                                                وجبريل رسول الله فينا . . . وروح القدس ليس لنا كفاء



                                                [ ص: 16 ] وهذه القصيدة من بحر الوافر ، وأصله مفاعلتن ست مرات ، وله عروضان وثلاثة أضرب :

                                                الأولى : مقطوفة : ولها ضرب واحد مثلها .

                                                والثانية : مجزوءة : ولها ضربان ، أحدهما مجزوء مثلها والآخر معصوب ، والقصيدة من العروض الأولى التي لها ضرب واحد فافهم ، فإنه لا يخفى عليك أن اطلعت في علم العروض ، وتقطيع البيت الأول هكذا :

                                                هجوت محم / مدا فأجب / ت عنه . . . وعند اللا /ـه في ذاك الـ / جزاء

                                                مفاعلتن / مفاعلتن / فعول . . . مفاعلتن / مفاعلتن / فعول

                                                وفيه العصب والقطف "العصب " بالمهملتين هو تسكين الخامس المتحرك فيبقى مفاعللن بسكون اللام فينقل إلى مفاعلن ، و"القطف " : الحذف بعد العصب حتى يصير مفاعل فيرد إلى فعولن .

                                                قوله : "هجوت مباركا برا " وفي بعض الروايات : هجوت محمدا برا ، والبر : الصادق .

                                                قوله : "حنيفا " أي : مائلا عن الأديان إلى دين الإسلام .

                                                قوله : "شيمته " بكسر الشين المعجمة أي : خلقه .

                                                قوله : "وقاء " بكسر الواو وفتحها ، وهو ما وقيت به شيئا ، من وقى يقي ، يقال : وقاه الله وقاية -بالكسر - أي : حفظه . قوله : "ثكلت بنيتي " من الثكل ، وهو فقدان المرأة ولدها ، وكذلك الثكل بالتحريك ، وامرأة ثاكل وثكلى ، وثكلته أمه ثكلا ، وأثكله الله أمه . وفي رواية الطحاوي : "عدمت بنيتي " ومعناهما واحد . والبنية : تصغير بنت .

                                                قوله : "إن لم تروها " وهي الخيول .

                                                "تثير النقع " ، أي الغبار ، وإثارته نشره وإظهاره في الجو .

                                                [ ص: 17 ] قوله : "من كنفي كداء " أي من ناحية كداء -وهو بفتح الكاف وبالمد - بأعلى مكة عند المقبرة ، ويسمى الناحية المعلى وهنالك المحصب ، وليس بمحصب منى ، وكان باب بني شيبة بإزاء ، وكدا بالقصر والضم مصروفا ، هو بأسفل مكة ، وهو بقرب شعب الشافعيين ، وابن الزبير عند قعيقعان ، وهناك موضع آخر يقال له : مصغر ، وإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن ، فهو في طريقه ، وليس من هذين المقدمين في شيء .

                                                ثم اعلم أن هذا البيت إذا قرئ هكذا : تثير النقع من كنفي كداء ; يكون فيه إقواء وهو من عيوب الشعر . والإقواء هو اختلاف المجرى الذي هو حركة الروي بالضم والكسر والفتح ; وذلك لأن أواخر أبيات القصيدة كلها مرفوع ما خلا قوله : من كنفي كداء ، فإنه مجرور بالإضافة ، وهذا اختلاف كما ترى ، وقد نبه الطحاوي على الصحيح من الرواية بقوله : وأهل العلم بالعربية يروون البيت الأول على غير ذلك . . . . إلى آخره ، فإنهم يروون هكذا .


                                                ثكلت بنيتي إن لم تروها . . . تثير النقع موعدها كداء



                                                فإنه على هذه الرواية تستقيم أبيات القصيدة ، ويرتفع الإقواء ; لارتفاع كداء بالخبرية عن قوله : "موعدها " أي موعد الخيول ، أراد موعد دخولها ناحية كداء .

                                                قوله : "ينازعن الأعنة " وفي بعض الروايات : "يبارين الأعنة " من المباراة وهي المجاراة والمسابقة ، وفي رواية البيهقي في "سننه " : "تنازعن الأسنة " وهي جمع سنان الرمح ، و"الأعنة " جمع عنان الفرس ، والضمير في تنازعني يرجع إلى الخيول .

                                                قوله : "مشرعات " حال من الضمير الذي في تنازعن ، وفي رواية : "مصعدات " ، وهي "الصحيحة " ومعناه مقبلات متوجهات نحوكم ، يقال صعد إلى فوق صعودا إذا طلع ، وأصعد في الأرض إذا مضى وسار .

                                                قوله : "بالخمر " بضم الخاء المعجمة : جمع خمار المرأة .

                                                [ ص: 18 ] وقوله : "النساء " مرفوع على أنه فاعل لقوله : "يلطمهن " .

                                                قوله : "على الأسل الظماء " الأسل : الرماح ، وهو في الأصل نبات له أغصان دقاق طوال ، والظماء جمع ظامئ وهو العطشان ، جعل الرماح عطاشا إلى ورود الدماء ، استعارة فهي إلى ذلك أسرع ، كمسارعة العطشان إلى ورود الماء .

                                                قوله :"تظل جيادنا " أي تقبل وتدنو منكم كأنها ألقت عليكم ظلها ، والجياد : الكرام من الخيول ، قال الجوهري : جاد الفرس أي صار رائعا ، يجود جودة -بالضم - فهو جواد ، للذكر والأنثى ، وخيل جياد وأجياد وأجاويد .

                                                قوله : "متمطرات " نصب على الحال من جيادنا وهو من تمطر تمطرا إذا أسرع ، وكذا يقال : مطر الفرس يمطر مطرا ومطورا .

                                                قوله : "عرضتها اللقاة " وفي بعض الروايات الصحيحة : عرضتها اللقاء ، يقال : فلان عرضة لكذا إذا كان مستعدا له متعرضا له .

                                                قوله : "روح القدس " يقال لجبريل -عليه السلام - : روح القدس ; لأنه خلق في طهارة ، لأنه من التقديس وهو التطهير ، ومنه : الأرض المقدسة قيل : هي الشام وفلسطين ، وسمي بيت المقدس ; لأنه الموضع الذي يتقدس فيه من الذنوب ، ومن أسماء الله تعالى : القدوس ، وهو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص .

                                                قوله : "كفاء " بكسر الكاف ، يقال : لا كفاء له : أي لا نظير له . ومنه الكفيء وهو النظير ، وكذلك الكفؤ والكفوء على وزن فعل وفعول ، والمصدر الكفاءة بالفتح والمد .




                                                الخدمات العلمية