الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم . [ ص: 248 ]

[3] حرمت عليكم الميتة وهي ما فارقه الروح من غير تذكية. قرأ أبو جعفر: (الميتة) بالتشديد، والباقون: بالتخفيف، والكسائي يميل التاء حيث وقف على هاء التأنيث.

والدم أي: المسفوح، وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء، ويشوونها.

ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أي: ما ذكر على ذبحه اسم غير الله سبحانه; كقول: باسم اللات والعزى.

والمنخنقة التي تخنق. وروي عن أبي جعفر: (والمنخنقة) بإخفاء النون عند الخاء، وروي عنه الإظهار كبقية القراء، وهو أشهر، وتقدم ذكر مذهبه في ذلك مستوفى في سورة النساء عند تفسير قوله تعالى: إن يكن غنيا [النساء: 135].

والموقوذة المقتولة بالخشب. قرأ الكسائي: (والموقوذة) بإمالة الذال حيث وقف على هاء التأنيث.

والمتردية الساقطة من علو فتموت.

والنطيحة التي تنطحها أخرى فتموت. [ ص: 249 ]

وما أكل السبع أي: بعضه.

إلا ما ذكيتم إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة.

وما ذبح على النصب وهي حجارة كانت منصوبة حول البيت يعبدها الجاهلية، ويذبحون عندها، ويعدون ذلك قربة.

وأن تستقسموا تطلبوا القسم والحكم.

بالأزلام جمع زلم بضم الزاي وفتحها، وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا، ضربوا ثلاثة قداح مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني، والثالث: غفل، فإن خرج الآمر، مضوا على ذلك، وإن خرج الناهي، تجنبوا عنه، وإن خرج الغفل، أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام: طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام.

ذلكم أي: المحرمات في الآية، أو الاستقسام.

فسق قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تكهن أو استقسم، أو تطير طيرة يرده عن سفره، لم ينظر إلى الدرجات العلا من الجنة يوم القيامة".

اليوم يئس الذين كفروا من دينكم أي: من إبطاله ورجوعكم عنه.

فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. [ ص: 250 ]

واخشون أخلصوا الخشية لي. قرأ يعقوب: (واخشوني) بإثبات الياء حالة الوقف.

اليوم أكملت لكم دينكم بإتمام عزه وظهوره ونصره: نزلت يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها، فبركت، قال ابن عباس: "لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام".

وأتممت عليكم نعمتي بالهداية والتوفيق، وبدخول مكة آمنين، ومنع المشركين من دخول الحرم بعد العام.

ورضيت لكم الإسلام اخترته لكم.

دينا من بين الأديان، وهو الدين عند الله لا غير، قال ابن عباس: "كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة، وعرفة، وعيد اليهود، والنصارى، والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده".

ولما نزلت هذه الآية، بكى عمر رضي الله عنه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يبكيك؟ " فقال: "كنا في زيادة من ديننا، وأما إذا كمل; فإنه لا يكمل [ ص: 251 ] شيء إلا نقص" فقال: "صدقت" وعاش بعدها -صلى الله عليه وسلم- أحدا وثمانين يوما، وتوفي يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقال ابن الجوزي: لاثنتي عشرة ليلة خلت منه سنة إحدى عشرة من الهجرة.

فمن اضطر متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض مؤكد معنى التحريم. قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وابن كثير، والكسائي، وخلف: (فمن اضطر) بضم النون، وأبو جعفر: بكسر الطاء، والمعنى: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات.

في مخمصة مجاعة.

غير متجانف مائل.

لإثم وهو الأكل فوق الشبع.

فإن الله غفور له ما أتى عند اضطراره.

رحيم لا يؤاخذه بأكله. وتقدم اختلاف الأئمة الأربعة في جواز أكل الميتة عند الضرورة، وقدر ما يجوز أكله في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير [ ص: 252 ] الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم [الآية: 173].

التالي السابق


الخدمات العلمية