الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين .

[26] قال الله تعالى.

فإنها أي: الأرض المقدسة.

محرمة عليهم ممنوعة منهم لا يدخلونها بسبب عصيانهم.

أربعين سنة يتيهون في الأرض يترددون فيها متحيرين.

فلا تأس تحزن.

على القوم الفاسقين خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين، فإذا أمسوا، كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه، وكانوا ست مئة ألف مقاتل. والتيه: أرض بالقرب من أيلة التي هي حد أرض الحجاز من [ ص: 277 ] جهة الشام، وطول أرض التيه نحو من ستة أيام، والصحيح أن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام كانا في التيه، ولم يكن عقوبة لهما، بل كان راحة ورحمة; كإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، ومات هارون عليه السلام في التيه، كما تقدم في أواخر سورة النساء، ولم يحضر بنو إسرائيل موته، فاتهموا موسى بقتله، فقال لهم: يا سفهاء بني إسرائيل! ماذا لقيت منكم؟ أقتل أخي وشقيقي وعضدي؟! ثم دعا الله تعالى أن يبرئه عندهم من ذلك، فأمر الله الملائكة أن يحملوا سرير هارون الذي وضع عليه بداخل الكهف الذي دفن فيه، فحملوه في الهواء بين السماء والأرض، ونادت الملائكة: يا بني إسرائيل! لا تتهموا موسى بقتل أخيه هارون، فهذا سريره قد قبضه الله تعالى، فحزن بنو إسرائيل على موته; لأنه كان محبوبا عندهم، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: إنا لن ندخلها أبدا فلما انقرضوا على رأس أربعين سنة، سار موسى بالمؤمنين نحو القرية إلى باب حطة، ومكتوب عليه اسم الله الأعظم، وأقبل المؤمنون فسجدوا عند الباب، ودخل أولاد الفاسقين، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم كما تقدم في سورة البقرة، وغلب موسى على مدينة أريحا، ثم توفي موسى بعد وفاة هارون بأحد عشر شهرا.

وفي "الصحيح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه، صكه، فرجع إلى ربه عز [ ص: 278 ] وجل، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع وقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فلو كنت ثم، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" وتقدم في سورة البقرة قدر عمره، وتاريخ وفاته، ومحل قبره عند تفسير قوله تعالى: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة: 51].

ولما توفي موسى عليه السلام، قام بعد وفاته بتدبير بني إسرائيل يوشع بن نون، بعثه الله نبيا، وأمره بقتل الجبارين، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا، وأحاط بها ستة أشهر، فلما كان الشهر السابع، نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط السور، ودخلوا، فقاتلوهم، وهجموا على الجبارين فهزموهم وقتلوهم، وكان ذلك في يوم الجمعة، وقد بقيت منهم بقية، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فدعا يوشع وقال: اللهم اردد الشمس علي، وسأل الشمس أن تقف، والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت، فوقفت الشمس، [ ص: 279 ] وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين، وتتبع ملوك الشام واستباحهم، وملك الشام، وفرق فيها عماله، واستمر يدبر بني إسرائيل ثماني وعشرين سنة، ثم توفي وله مئة وعشر سنين، ودفن في كفل حارس: قرية من أعمال نابلس، وقيل: إنه مدفون في المعرة، وفي القصة اختلاف بين المفسرين والمؤرخين، والله أعلم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية