الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                900 ص: حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال: ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة ، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن سهل بن حنيف ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (ح).

                                                وحدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي ، عن حكيم بن حكيم ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس (ح).

                                                وحدثنا ربيع المؤذن ، قال: حدثنا أسيد ، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، عن حكيم بن حكيم ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أمني جبريل -عليه السلام - مرتين عند باب البيت ، فصلى بي الظهر حين مالت الشمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلى بي الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى [ ص: 135 ] بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين مضى ثلث الليل، وصلى بي الغداة عندما أسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد ، الوقت فيما بين هذين الوقتين، هذا وقت الأنبياء من قبلك" .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه ثلاث طرق:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي العدوي البصري احتج به الأربعة، عن سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني والد المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث ، روى له الأربعة ووثقه ابن حبان ، وقال النسائي : ليس بالقوي. وعن يحيى بن معين : صالح. ولما ذكره أبو داود في روايته قال: عن سفيان ، حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة .

                                                وهو يروي عن حكيم بن حكيم - بفتح الحاء فيهما - بن عباد بن سهل بن حنيف الأنصاري المدني ، قال ابن سعد : لا يحتجون بحديثه. ووثقه ابن حبان وروى له الأربعة.

                                                عن نافع بن جبير بن مطعم المدني ، روى له الجماعة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا مسدد ، ثنا يحيى ، عن سفيان ، قال: حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة ، عن حكيم بن حكيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " [أمني جبريل -عليه السلام -]، عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد [ ص: 136 ] صلى بي الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين" .

                                                الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم ، عن عبد الله بن وهب المصري ، عن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني ، روى له مسلم وأبو داود والنسائي ، عن عبد الرحمن بن الحارث - وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المدني ، تقدم، عن حكيم بن حكيم ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه الحاكم في "مستدركه": أنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني ، ثنا جدي، ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ، نا عبد العزيز بن محمد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن حكيم بن حكيم ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس ، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه.

                                                الثالث: عن ربيع بن سليمان المصري المؤذن صاحب الشافعي وثقه ابن يونس والخطيب ، عن أسد بن موسى بن إبراهيم المصري وثقه النسائي وابن يونس ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد - بالنون - واسمه عبد الله بن ذكوان ، احتج به الأربعة، عن عبد الرحمن بن الحارث ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا هناد بن السري ، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة ، عن حكيم بن حكيم ، قال: أنا نافع بن جبير بن مطعم ، قال: أخبرني ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمني جبريل - عليه السلام - [عند البيت ] مرتين وصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء [ ص: 137 ] مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلي جبريل -عليه السلام - فقال: يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين" .

                                                فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟

                                                قلت: قال الترمذي : حديث ابن عباس حديث حسن.

                                                ورواه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

                                                ورواه أبو بكر بن أبي خزيمة في "صحيحه".

                                                وقال ابن عبد البر في "التمهيد": وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم.

                                                وقد أخرجه عبد الرزاق : عن الثوري وابن أبي سبرة ، عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده.

                                                وقد أخرجه أيضا: عن العمري ، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه.

                                                [ ص: 138 ] قوله: "أمني جبريل -عليه السلام - " من أممت القوم في الصلاة إمامة، وائتم به أي اقتدى به.

                                                وجبريل -عليه السلام- ملك ينزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام وأكثر نزوله كان على نبينا محمد -عليه السلام- ، وذكر ابن عديس أن أجود اللغات: جبرئيل مثال جبرعيل، ويقال: جبريل ، بكسر الجيم والراء من غير همز.

                                                قيل: وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ ابن عامر وأبو عمرو ، وجبريل - بفتح الجيم وكسر الراء - وذكر الزجاج أن بها قرأ أهل الكوفة ، وهي لغة تميم وقيس .

                                                قال الزجاج : وهو أجود اللغات.

                                                ويقال أيضا: جبرئل - بحذف الياء وإثبات الهمزة وتشديد اللام - بها قرأ يحيى بن يعمر ، ويقال: جبرين بالنون.

                                                وقال الجوهري : ويقال جبرئل مثال جبرعل.

                                                وقال ابن جني : وزنه فعليل والهمزة فيه زائدة.

                                                وفي "الروض": وهو اسم سرياني ومعناه: عبد الرحمن أو عبد العزيز. كذا جاء عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا، والوقف أصح، وفي "تفسير عبد بن حميد " الكشي الكبير ، عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه، عن عكرمة قال: اسم جبريل بالعربية عبد الله ، ويقال: عبيد الله، وقال السهيلي ، وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله - عز وجل - وهو: إيل، وقال بعضهم: هذا من الأسماء التي إضافتها مقلوبة كما في الإضافة في كلام العجم يقدمون المضاف إليه على المضاف، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن العبد، ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى، وقال: اتفق في اسم جبريل أنه موافق من جهة العربية لمعناه، وإن كان أعجميا فإن الجبر هو إصلاح ما وهي، وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد، وجبر ما وهي من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفا بمكة شرفها الله تعالى ولا بأرض العرب، ولهذا فإن النبي -عليه السلام- لما ذكره لخديجة -رضي الله عنها- انطلقت لتسأل من عنده

                                                [ ص: 139 ] علم من الكتاب كعداس ونسطور الراهب ، فقالا: ندري ندري، ومن أين هذا الاسم بهذه البلاد؟

                                                وذكر أبو موسى المديني في "المغيث" أن في الحديث: يوسف بن إسرائيل الله يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، فأضاف إسرائيل جملة إلى الله عز وجل، وهذا ينقض الأقوال المتقدمة كلها.

                                                وجاء أيضا جئرين بجيم مفتوحة بعدها همزة مكسورة ثم ياء ونون، وجبرائل بفتح الجيم وهمزة مكسورة وتشديد اللام، وجبرائيل بألف وهمزة بعدها ياء، وجبراييل بياءين بعد الألف، وجبريل بهمزة بعد الراء وياء وجبريل بكسر الهمزة وتخفيف اللام مع فتح الجيم والراء، وجبرين بفتح الجيم وكسرها وبدل اللام نون.

                                                قوله: "عند باب البيت " أي بحضرة الكعبة ، وأطلق البيت على الكعبة لغلبة الاستعمال كما أطلق النجم على الثريا.

                                                والصعق على خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب .

                                                قوله: "حين مالت الشمس" وميلانها زوالها وانحطاطها عن كبد السماء يسيرا، وفي رواية غيره: "حين زالت الشمس".

                                                قوله: "حين غاب الشفق" وهو البياض المعترض في الأفق عند أبي حنيفة ؛ لأنه من أثر النهار، وبه قال زفر وداود والمزني ، وهو قول المبرد والفراء ، ونقل عن أبي بكر الصديق وعائشة وأبي هريرة ومعاذ وأبي وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي .

                                                وقال أبو يوسف ومحمد : هو الحمرة، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه ، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت ، وحكي عن مكحول وطاوس .

                                                وحكي عن أحمد : أنه البياض في البنيان والحمرة في الصحاري.

                                                [ ص: 140 ] وقال بعضهم: اسم الحمرة والبياض جميعا، إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقان وأبيض ليس بناصع.

                                                قوله: "حين حرم الطعام والشراب على الصائم" وهو أول طلوع الفجر الثاني الصادق.

                                                قوله: "وصلى في المغرب حين أفطر الصائم" يعني حين غابت الشمس.

                                                قوله: "عندما أسفر" أي: نور.

                                                قوله: "الوقت" مبتدأ وخبره قوله: "فيما بين هذين الوقتين"، والإشارة إلى وقتي اليوم الأول واليوم الثاني اللذين أم فيهما جبريل النبي -عليه السلام-.

                                                ويستنبط منه أحكام:

                                                الأول: يستفاد منه أن أول وقت الظهر حين تزول الشمس عن كبد السماء يسيرا ، وهذا لا خلاف فيه لأحد من الأئمة وإنما الخلاف في آخر وقته، فعند أبي حنيفة آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثليه، وهو أول وقت العصر.

                                                وقال صاحب "البدائع": أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وأما آخره فلم يذكر في ظاهر الرواية، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة ، روى محمد عنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، والمذكور في الأصل: ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين، ولم يتعرض لآخر وقت العصر.

                                                وروى الحسن عنه أن آخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والشافعي والحسن .

                                                وروى أسد بن عمرو البجلي : إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال خرج وقت الظهر؛ ولا يدخل وقت العصر ما لم يصر ظل كل شيء مثليه.

                                                فعلى هذه الرواية يكون بين وقت الظهر والعصر وقت مهمل كما بين الفجر والظهر.

                                                [ ص: 141 ] وقال أبو عمر : واختلفوا في آخر وقت الظهر؛ فقال مالك وأصحابه: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس، وهو أول وقت العصر بلا فصل، وبذلك قال ابن المبارك وجماعة.

                                                وقال الثوري والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري : آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر، ولم يذكروا فاصلة؛ إلا أن قولهم: ثم يدخل وقت العصر يدل على فاصلة.

                                                وقال أبو حنيفة : آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه. انتهى.

                                                واستدل هؤلاء بقوله: "فصلى في العصر حين صار ظل كل شيء مثله" فدل هذا أن أول وقت العصر هذا، فكان هو آخر وقت الظهر ضرورة، وقالوا: إن قوله: "وصلى في العصر حين صار ظل كل شيء مثليه" لبيان آخر الوقت، ولم يؤخر الظهر في اليوم الثاني إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، فدل أن آخر وقت الظهر ما ذكرنا.

                                                واستدل أبو حنيفة بما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر قال: قال النبي -عليه السلام-: " مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود ، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى ، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى ، فقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء ؟! قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء" .

                                                [ ص: 142 ] فدل الحديث على أن مدة العصر أقصر من مدة الظهر، وأن ما يكون أقصر أن لو كان الأمر على ما قال أبو حنيفة - رحمه الله -. وقال شمس الأئمة في معنى الحديث: وإنما يكون ذلك أقصر إذا امتد وقت الظهر إلى أن يبلغ الظل قامتين، وقال -عليه السلام-: "أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم" وأشد ما يكون من الحر في ديارهم إذا صار ظل شيء مثله، ولأنا عرفنا دخول وقت الظهر بتيقن، ووقع الشك في خروجه إذا صار الظل مثله أو مثليه؟ واليقين لا يزول بالشك، والأوقات ما استقرت على حديث إمامة جبريل -عليه السلام -، ففيه أنه صلى الفجر من اليوم الثاني حين أسفر، والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس، وفيه أيضا أنه صلى العشاء في اليوم الثاني حين مضى ثلث الليل، والوقت يبقى بعده، وأما تأويل إمامة جبريل -عليه السلام -: "صلى الظهر من الغد حتى صار كل شيء مثله" أي قرب منه، وصلى في العصر - في اليوم الأول - حين صار ظل كل شيء مثله أي زاد عليه وهو نظير قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن أي قارب بلوغ أجلهن وقال تعالى: فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أي تم انقضاء عدتهن.

                                                وقال صاحب "البدائع": وخبر إمامة جبريل -عليه السلام - منسوخ في الفراغ، فإن المروي أنه -عليه السلام- صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، والإجماع منعقد على تغاير وقتي الظهر والعصر، فكان الحديث منسوخا في الفراغ. انتهى.

                                                ونقل صاحب "المبسوط" عن مالك أنه قال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، فإذا مضى بقدر ما يصلى فيه أربع ركعات دخل وقت العصر، فكان الوقت مشتركا بين الظهر والعصر إلى أن يصير الظل قامتين؛ لظاهر حديث إمامة [ ص: 143 ] جبريل -عليه السلام - فإنه [ذكر أنه] صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى العصر في اليوم الأول، ويرد هذا قوله -عليه السلام-: "لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى" وتأويل حديث إمامة جبريل -عليه السلام - ما ذكرناه آنفا.

                                                الثاني: يستفاد منه [أن] آخر العصر إلى غروب الشمس.

                                                وعن الشافعي : إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقت العصر ، ولا يدخل وقت المغرب حتى تغرب الشمس، فيكون بينهما وقت مهمل.

                                                وعنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقته المستحب، ويبقى أصل الوقت إلى غروب الشمس.

                                                وقال أبو عمر : اختلفوا في أول وقت العصر وآخره؛ فقال مالك : أول وقت العصر إذا كان الظل قامة بعد القدر الذي زالت عليه الشمس، ويستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا ذلك قليلا.

                                                قال: وآخر وقتها أن يكون ظل كل شيء مثليه، هكذا حكاية ابن عبد الحكم وابن القاسم عنه، وهذا عندنا على وقت الاختيار، وذكر ابن وهب عن مالك : أن آخر وقت العصر: غروب الشمس.

                                                وقد قال ابن وهب أيضا عن مالك : وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس. وهذا عندنا أيضا على أصحاب الضرورات.

                                                وقال الشافعي : أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله، ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته [وقت] [ ص: 144 ] الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته وقت العصر مطلقا، كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله.

                                                قال: وإنما قلت ذلك؛ لحديث أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-: "من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها" .

                                                قال أبو عمر : قول الشافعي ها هنا في وقت الظهر يمنع الاشتراك بينها وبين العصر في ظاهر كلامه، وهو شيء ينقضه ما بنى عليه مذهبه في الحائض تطهر، والمغمى عليه يفيق، والكافر يسلم، والصبي يحتلم؛ لأنه يوجب على كل واحد منهم إذا أدرك ركعة واحدة قبل الغروب؛ الظهر والعصر جميعا، وفي بعض أقاويله: إذا أدرك هؤلاء مقدار تكبيرة واحدة قبل الغروب لزمهم الظهر والعصر جميعا، وكيف يسوغ لمن هذا مذهبه أن يقول: الظهر يفوت فواتا صحيحا بمجاوزة ظل كل شيء مثله أكثر من ذوات العصر بمجاوزة ظل كل شيء مثليه؟!

                                                وأما قوله في وقت العصر: إذا جاوز ظل كل شيء مثليه فقد جاوز وقت الاختيار؛ (فهذا أيضا شيء لا هو ولا غيره من العلماء) يقولون: من صلى العصر والشمس بيضاء نقية؛ فقد صلاها في وقتها المختار، لا أعلمهم يختلفون في ذلك، وقول أبي ثور في أول وقت العصر كقول الشافعي ، وهو قول داود .

                                                وقال أبو عمر : وأما قول الشافعي وأبي ثور في أن وقت العصر لا يدخل إلا أن يزيد الظل على القامة زيادة تظهر فمخالف لحديث إمامة جبريل -عليه السلام -؛ لأن حديث إمامة جبريل -عليه السلام - يقتضي أن يكون آخر وقت الظهر وهو أول وقت العصر بلا فصل، ولكنه مأخوذ من حديث أبي قتادة ، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى " وقال أحمد بن حنبل في هذه المسألة مثل قول الشافعي أيضا فيما حكاه الخرقي عنه، وأما الأثرم فقال: سمعت [ ص: 145 ] أبا عبد الله يقول: آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر. قال لي ذلك غير مرة، وسمعته يقول: آخر وقت العصر تغير الشمس. قيل له: ولا تقول بالمثل والمثلين؟ قال: لا؛ هذا أكثر عندي.

                                                وقال إسحاق بن راهويه : آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب - وهو قول داود - لكل الناس، معذور وغير معذور، والأفضل عندهما أول الوقت.

                                                الثالث: يستفاد منه أن أول وقت المغرب غروب الشمس، وهذا لا خلاف فيه، وأما آخره فقد اختلفوا فيه؛ فقال أصحابنا: حتى يغيب الشفق، وقال الشافعي : وقتها ما يتطهر الإنسان ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات، حتى لو صلاها بعد ذلك تكون قضاء لا أداء؛ لحديث إمامة جبريل -عليه السلام - أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد.

                                                وقال أبو عمر : الظاهر في قول مالك أن وقت المغرب وقت واحد عند مغيب الشمس، وبهذا تواترت الروايات عنه، إلا أنه قال في "الموطأ": إذا غاب الشفق فقد خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء.

                                                وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وداود ، واحتجوا بحديث أبي موسى وغيره: "أن النبي -عليه السلام- صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى إذا كان عند سقوط الشفق" قالوا: وهذه الآثار أولى من أخبار إمامة جبريل -عليه السلام -؛ لأنها متأخرة بالمدينة ، وإمامة جبريل بمكة ، والمتأخر أولى من فعله وأمره -عليه السلام-؛ لأنه ناسخ لما قبله.

                                                قلت: أجاب صاحب "البدائع" عن حديث إمامة جبريل -عليه السلام - أنه إنما لم يؤخر المغرب عن أول الغروب في اليومين لأن التأخير عن أول الغروب مكروه إلا لعذر، وإنه جاء ليعلمه المباح من الأوقات، ألا ترى أنه لم يؤخر العصر إلى الغروب مع بقاء [ ص: 146 ] الوقت إليه؟! وكذا لم يؤخر العشاء إلى ما بعد ثلث الليل وإن كان ما بعده وقت العشاء بالإجماع. انتهى.

                                                وقال أبو عمر : قال الشافعي في وقت المغرب قولين:

                                                أحدهما: إلى آخر الشفق.

                                                والآخر: - وهو المشهور عنه -: أن وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تجب الشمس.

                                                وقال الثوري : وقت المغرب إذا غربت الشمس فإن حبسك عذر [فأخرتها] إلى أن يغيب الشفق في السفر فلا بأس، وكانوا يكرهون تأخيرها.

                                                الرابع: يستفاد منه أن أول وقت العشاء من حين مغيب الشفق، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا، وآخره إلى أن يطلع الفجر الصادق.

                                                وقال أبو عمر : أجمعوا على أن وقت العشاء الآخرة للمقيم مغيب الشفق، واختلفوا في آخر وقتها، فالمشهور من مذهب مالك في آخر وقت العشاء في السفر والحضر لغير أصحاب الضرورات: ثلث الليل الأول، ويستحب لأهل مساجد الجماعات أن لا يعجلوا بها في أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليلا أفضل، وروى ابن وهب عن مالك : أن وقتها من حين يغيب الشفق إلى أن يطلع الفجر.

                                                وهو قول داود .

                                                وقال أبو حنيفة وأصحابه: المستحب في وقتها إلى ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى نصف الليل، ولا تفوت إلا بطلوع الفجر.

                                                وقال الشافعي : آخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل، فإذا مضى الليل فقد فاتت.

                                                [ ص: 147 ] وقال أبو ثور : وقتها من مغيب الشفق إلى نصف الليل.

                                                وفي "الحاوي في فروع الحنابلة ": وقت العشاء - وهي أربع ركعات - إلى الفجر الثاني، والمستحب تأخيرها إلى الثلث الأول، وعنه - أي عن أحمد -: إلى نصفه - إن سهل على المأمومين - ويحرم بعده بلا عذر في أحد الوجهين، ويكره في الآخر.

                                                الخامس: يستفاد منه أن أول وقت الفجر عند طلوع الفجر الصادق؛ لأنه في هذا الوقت يحرم الطعام والشراب على الصائم، وآخره عند طلوع الشمس.

                                                وقال أبو عمر : أجمع العلماء على أن وقت صلاة الصبح طلوع الفجر الثاني إذا تيقن طلوعه وهو البياض المنتشر في أفق المشرق الذي لا ظلمة بعده.

                                                واختلفوا في آخر وقتها، فذكر ابن وهب عن مالك قال: وقت الصبح من حين يطلع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه.

                                                وكذلك قال الشافعي : آخر وقتها طلوع الشمس لضرورة وغير ضرورة، وهو قول داود وإسحاق .

                                                وأما سائر العلماء فجعلوا هذا وقتا لأصحاب العذر والضرورات، وممن ذهب إلى هذا مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد .

                                                وقال ابن القاسم عن مالك : وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة، وآخر وقتها إذا أسفر.

                                                السادس: فيه دليل على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يصلون في هذه الأوقات ، ولكن لا يلزم أن يكون قد صلى كل منهم في جميع هذه الأوقات، والمعنى: أن صلاتهم كانت في هذه الأوقات.

                                                السابع: فيه دليل على أن أوقات الصلوات الخمس فيما بين الوقتين اللذين صلى جبريل -عليه السلام - إماما بالنبي -عليه السلام- في أولها وآخرها.

                                                فإن قيل: فعل هذا ينبغي أن لا يكون الأول والآخر منها وقتا لها.

                                                [ ص: 148 ] قلت: لما صلى في أول الوقت وآخره وجد بيان منه فعلا وبقي الاحتياج إلى بيان ما بين الأول والآخر، فبين بالقول.

                                                وجواب آخر: أن هذا بيان للوقت المستحب؛ إذ الأداء في أول الوقت مما يتعسر على الناس ويؤدي أيضا إلى تقليل الجماعة، وفي التأخير إلى آخر الوقت خشية الفوات، فكان المستحب ما بينهما مع قوله -عليه السلام- "خير الأمور أوساطها".




                                                الخدمات العلمية