الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                972 ص: حدثنا يزيد بن سنان وفهد قالا: ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، قال: حدثني الليث بن سعد ، قال: حدثني نافع : " أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عجل السير ذات ليلة، وكان قد استصرخ على بعض أهله ابنة أبي عبيد فسار حتى هم الشفق أن يغيب، وأصحابه ينادونه بالصلاة فأبى عليهم، حتى إذا أكثروا عليه قال: إني رأيت رسول الله -عليه السلام- يجمع بين هاتين الصلاتين: المغرب والعشاء، وأنا أجمع بينهما " .

                                                حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن نافع ، عن ابن عمر قال: " كان رسول الله -عليه السلام- إذا عجل به السفر يجمع بين المغرب والعشاء " .

                                                [ ص: 245 ] حدثنا فهد ، قال: ثنا الحماني ، قال: ثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه: " أن رسول الله -عليه السلام- كان يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير " .

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا الحماني ، قال: ثنا أبي عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن إسماعيل بن أبي ذؤيب قال: " كنت مع ابن عمر ، فلما غربت الشمس هبنا أن نقول: الصلاة، فسار حتى ذهبت فحمة العشاء، ورأينا بياض الأفق، فنزل وصلى ثلاثا المغرب، واثنتين العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -عليه السلام- يفعل" .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه أربع طرق رجالها كلهم ثقات:

                                                الأول: عن يزيد بن سنان القزاز وفهد بن سليمان النحاس ، كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث ، عن الليث بن سعد ، عن نافع مولى ابن عمر ، أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود : عن سليمان بن داود العتكي ، عن حماد، عن أيوب ، عن نافع : "أن ابن عمر استصرخ على صفية وهو بمكة ، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فقال: إن النبي -عليه السلام- كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، فنزل فجمع بينهما" .

                                                وأخرجه الترمذي : من حديث عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، وقال: حسن صحيح.

                                                وأخرجه النسائي : من حديث سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، بمعناه أتم منه.

                                                وكذا أخرجه البخاري : عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر .

                                                [ ص: 246 ] قوله: "استصرخ" على بناء المجهول يقال: استصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، وهو المصوت يعلمه بأمر حادث يستعين به عليه أو ينعي له ميتا، والاستصراخ: الاستغاثة.

                                                قوله: "ابنة أبي عبيد " بيان لقوله: "على بعض أهله" واسمها صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية ، أخت المختار بن أبي عبيد الكذاب ، رأت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وروت عن عائشة -رضي الله عنها-، روى عنها نافع مولى ابن عمر ، وعبد الله بن دينار ، قال أحمد : هي مدنية ثقفية ثقة، روى لها مسلم وأبو داود وابن ماجه وعمرت أزيد من ستين عاما.

                                                قوله: "حتى هم الشفق أن يغيب" أي: حتى قصد الغيبوبة، أراد به كاد أن يغيب الشفق.

                                                وهو أيضا محمول على أنه أخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الصلاة الأخرى في أول وقتها؛ فيكون جامعا بينهما فعلا لا وقتا.

                                                فإن قيل: كيف تقول: يكون جامعا بينهما فعلا لا وقتا؛ ورواية أبي داود تصرح أنه جمع بينهما بعد غياب الشمس، حيث قال: "فسار حتى غاب الشفق، فنزل" وهذا صريح على أنه جمع بينهما وقتا لا فعلا؟!

                                                قلت: قد فتح لي جواب من الفيض الإلاهي، وهو أن الشفق لونه أحمر وأبيض كما اختلف الفقهاء فيه والعلماء من الصحابة -رضي الله عنهم- ويحتمل أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق الأحمر، فتكون المغرب في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، وكذلك العشاء تكون في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، فيطلق عليه أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق.

                                                فإن قيل: قد ذكر البيهقي في باب الجمع بين الصلاتين في السفر : عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أنه سار حتى غاب [ ص: 247 ] الشفق" . ثم قال: ورواه معمر ، عن أيوب وموسى بن عقبة ، عن نافع ، وقال في الحديث: "أخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوي من الليل، ثم نزل وصلى المغرب والعشاء..." الحديث.

                                                قلت: لم يذكر سنده لينظر فيه، وقد أخرجه النسائي بخلاف هذا، فقال: أنا إسحاق بن إبراهيم ، أنا عبد الرزاق ، نا معمر ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر : "كان -عليه السلام- إذا جد به أمر - أو جد به السير - جمع بين المغرب والعشاء" .

                                                وأخرج الدارقطني في "سننه": من حديث الثوري ، عن عبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر : "كان -عليه السلام- إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء" .

                                                فإن قيل: قد قال البيهقي : ورواه يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، فذكر أنه سار قريبا من ربع الليل ثم نزل وصلى.

                                                قلت: أسنده في "الخلافيات" من حديث يزيد بن هارون بسنده المذكور، ولفظه: "فسرنا أميالا ثم نزل فصلى قال يحيى : فحدثني نافع مرة أخرى فقال: "سرنا حتى إذا كان قريبا من ربع الليل نزل فصلى" . فلفظه مضطرب كما ترى، قد روي على وجهين، فاقتصر البيهقي في "السنن" على ما يوافق مقصوده. فافهم.

                                                الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ، قال: قرأت على مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء" .

                                                [ ص: 248 ] وأخرجه النسائي : عن قتيبة ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء" .

                                                الثالث: عن فهد بن سليمان ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني - بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام - وقد تكرر ذكره، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن عمر .

                                                وأخرجه النسائي : أنا محمد بن منصور ، قال: ثنا سفيان ، قال: سمعت الزهري ، قال: أخبرني سالم ، عن أبيه قال: "رأيت النبي -عليه السلام- إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء" .

                                                الرابع: عن فهد بن سليمان أيضا، عن يحيى بن عبد الحميد أيضا، عن سفيان بن عيينة أيضا، عن عبد الله بن أبي نجيح واسمه يسار المكي ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وقيل: ذؤيب... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي : أنا إسحاق بن إبراهيم ، أنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ من قريش قال: "صحبت ابن عمر إلى الحمى، فلما غربت الشمس هبت أن أقول له: الصلاة، فسار حتى ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم نزل فصلى المغرب ثلاث ركعات، ثم صلى ركعتين على إثرهما، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -عليه السلام- يفعل" .

                                                قوله: "هبنا" من هاب يهيب هيبة.

                                                قوله: "فحمة العشاء" أي إقباله وأول سواده، يقال للظلمة التي بين صلاتي العشاء: الفحمة، وللظلمة التي بين العتمة والغداة: العسعسة.

                                                قوله: "بياض الأفق" يدل على ما قلنا أنه أخر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقته، فجمع بينهما فعلا لا وقتا .




                                                الخدمات العلمية