الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                983 ص: قال أبو جعفر - رحمه الله -: فكل هؤلاء يروي عن نافع أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، فقد ذكرنا احتمال قول أيوب عن نافع : "حتى إذا غاب الشفق "أنه يحتمل قرب غيبوبة الشفق، فأولى الأشياء بنا أن نحمل هذه الروايات كلها على الاتفاق لا على التضاد، فنجعل ما روي عن ابن عمر أن نزوله للمغرب كان بعد ما غاب الشفق، على قرب غيبوبة الشفق إذ كان قد روي عنه أن نزوله ذلك كان قبل غيبوبة الشفق، ولو تضاد ذلك لكان حديث ابن جابر أولاهما؛ لأن حديث أيوب إنما فيه أن رسول الله -عليه السلام- كان يجمع بين الصلاتين، ثم ذكر فعل ابن عمر كيف كان، وفي حديث ابن جابر صفة جمع رسول الله -عليه السلام- كيف كان ؛ فهو أولى.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهؤلاء إلى أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر والعطاف بن خالد ؛ فإنهم كلهم رووا عن نافع : أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، وأما أيوب السختياني فإنه روى عنه: "فسار حتى غاب الشفق" وقد قال فيما مضى آنفا: إنه يحتمل أن يكون معناه: فسار حتى قرب غيبوبة الشفق، فبهذا التأويل يندفع التضاد بين الروايات، وهذا أولى؛ لأن حمل الروايات كلها على الاتفاق خير من أن تبقى على التضاد.

                                                [ ص: 264 ] فإن قيل: قد روى عن نافع مثل ما روى أيوب عنه: عبيد الله بن عمر العمري وحماد بن زيد وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد الأنصاري وعمر بن محمد بن زيد ؛ فإن هؤلاء حفاظ ثقات ولا يقاربهم أسامة بن زيد وابن جابر والعطاف ، ورواية الحفاظ أولى بالصواب، وكذا قال البيهقي في "المعرفة" إن محمد بن فضيل عن أبيه وابن جابر وعطاف بن خالد ، رووه عن نافع : "صلى قبل غروب الشفق المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق فصلى العشاء" وهؤلاء خالفوا الأئمة الحفاظ من أصحاب نافع في هذه الرواية، ولا يمكن الجمع بينهما؛ فتترك روايتهم وتؤخذ رواية الحفاظ.

                                                قلت: إن كان روى هؤلاء الحفاظ عن نافع أنه سار حتى غاب الشفق؛ فقد روى حفاظ آخرون عن نافع وعن ابن عمر نفسه بخلاف هذا؛ فإن الليث بن سعد روى عن نافع : "فسار حتى هم الشفق أن يغيب" وقد مضت روايته فيما مضى.

                                                وكذا روى فضيل بن غزوان ، عن جرير الضبي ، عن نافع : "فسار حتى إذا كاد أن يغيب الشفق" .

                                                وروايته عند الدارقطني .

                                                وكذا روى إسماعيل بن أبي ذئب : "أنه كان مع ابن عمر ، فسار حتى ذهبت فحمة السماء ورأينا بياض الأفق، فنزل يصلي ثلاثا المغرب، واثنتين العشاء".

                                                فهؤلاء حفاظ أيضا قد رووا أن نزوله لم يكن بعد غياب الشفق، على أن جماعة أخرى من الثقات قد تابعهم في ذلك، مثل: أسامة بن زيد وعطاف بن خالد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، على ما ذكرناهم، على أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لم ير جمع بين الصلاتين قط إلا ليلة استصرخ على زوجته صفية ، كذا قال أبو داود ، وفي رواية: فعل ذلك مرة أو مرتين، وزعم عبد الحق الإشبيلي أن فيه وهما.

                                                [ ص: 265 ] والصحيح من هذه الروايات رواية النسائي : عن محمود بن خالد ، حدثني الوليد ، ثنا ابن جابر - وهو عبد الرحمن بن يزيد - قال: حدثني نافع ، قال: خرجت مع عبد الله ، فذكر قوله: "حتى إذا كان في آخر الشفق" .

                                                قال: ويقوي هذه الرواية حديث أنس من عند مسلم : أن النبي -عليه السلام- إذا عجل به سفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء" انتهى.

                                                قلت: حينئذ ترجح رواية من روى أن نزوله لم يكن إلا قبل غروب الشفق، فسقط كلام البيهقي : "فتترك روايتهم" فلم تترك روايتهم مع كونها موافقة للأصول ومؤيدة بصفة جمع النبي -عليه السلام-؟! والعمل بروايتهم ورواية وغيرهم بالتأويل المذكور أولى من أن تترك رواية بعضهم ويعمل برواية بعضهم.

                                                فإن قيل: تأويل الطحاوي يمشي في رواية من يقول: "فسار حتى نزل بعد غياب الشفق" وكيف يمشي ذلك في رواية من قال: "فسار قريبا من ربع الليل" وهو رواية يحيى بن سعيد ، عن نافع ، ورواية موسى بن عقبة عنه: "حتى ذهب هوي من الليل" ورواية عمر بن محمد بن زيد : "فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة نزل" وكذا رواية عبيد الله العمري عن نافع ، كل هذه عند البيهقي ، وعند ابن خزيمة : "فسرنا حتى كان نصف الليل أو قريبا من نصفه نزل فصلى".

                                                قلت: وإن لم يمش ذلك التأويل في هذه الروايات؛ فالعمل برواية [ابن] جابر أولى؛ لأن فيه صفة جمع رسول الله -عليه السلام- كيف كان ، وفي رواية هؤلاء صفة جمع ابن عمر غير منقول عن النبي -عليه السلام- فيكون هذا أولى، على أن فيما ذكرتم وهما كما قاله عبد الحق الإشبيلي وأنه نص على أن الصحيح من الروايات رواية النسائي ، وهي [ ص: 266 ] رواية ابن جابر ، وإلى ذلك أشار الطحاوي بقوله: "ولو تضاد ذلك لكان حديث ابن جابر أولى". والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية