الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                869 ص: ثم قد روي عن عائشة -رضي الله عنها- من بعد النبي -عليه السلام- ما قد حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا وهب بن جرير ، قال: ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود قال: "قلت: يا أم المؤمنين، متى توترين؟ قالت: إذا أذن المؤذن. قال الأسود : وإنما كان يؤذن بعد الصبح" .

                                                قال أبو جعفر : وهذا تأذينهم في مسجد رسول الله -عليه السلام-؛ لأن الأسود إنما كان سماعه من عائشة بالمدينة ، وهي قد سمعت من النبي -عليه السلام- ما قد رويناه عنها، فلم تنكر عليهم التأذين قبل الفجر ، ولا أنكر ذلك غيرها من أصحاب النبي -عليه السلام-، فدل ذلك على أن مراد بلال بأذانه ذلك الفجر، وأن قول النبي -عليه السلام-: "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " إنما هو لإصابته طلوع الفجر، فلما رويت هذه الآثار "أنهم كانوا لا يؤذنون حتى يطلع الفجر" فلما كان ذلك كذلك؛ بطل المعنى الذي ذهب إليه أبو سيف ، وإن كان المعنى غير ذلك، وكانوا يؤذنون قبل الفجر على القصد منهم لذلك، فإن حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن ذلك التأذين كان لغير الصلاة، وفي تأذين ابن أم مكتوم بعد طلوع الفجر دليل على [ ص: 89 ] أن ذلك موضع أذان لتلك الصلاة، ولو لم يكن ذلك موضع أذان لها لما أبيح الأذان فيها، فلما أبيح ذلك؛ ثبت أن ذلك الوقت وقت الأذان لها، واحتمل تقديمهم أذان بلال قبل ذلك ما ذكرنا.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا الكلام أيضا ينصب على قوله: "وقد يحتمل أن يكون بلال قد كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر قد طلع فيه " تقريره: أن الأسود بن يزيد لما سأل عائشة -رضي الله عنها- عن وقت إيتارها قالت: إذا أذن المؤذن، وأخبر الأسود : أنهم كانوا يؤذنون بعد الصبح، وهكذا كان تأذينهم في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن سماع الأسود من عائشة -رضي الله عنها- كان بالمدينة ، وعائشة قد سمعت (من) النبي -عليه السلام- يقول: "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم " ومع هذا لم تنكر عائشة عليهم التأذين قبل الفجر ، ولا أنكر غيرها أيضا من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فدل ذلك أن مراد بلال من أذانه ذلك الذي وقع قبل الفجر هو الفجر، فإذا كان مراده هو الفجر؛ لم يصح الاستدلال بحديثه على جواز الأذان قبل الفجر؛ لأن بلالا ما قصد أن يؤذن قبل الفجر؛ وإنما كان قصده الفجر، ولكن وقع قبل الفجر لسوء ببصره كما ذكرنا.

                                                وأما قول النبي -عليه السلام- "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " فإنما هو لإصابته طلوع الفجر بإخبار الناس له بقولهم: "أصبحت، أصبحت". بخلاف بلال لخطئه فيه كما ذكرناه.

                                                قوله: "فلما رويت هذه الآثار" أي الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب على ما ذكره، وكان في حديث حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- "أنهم كانوا لا يؤذنون حتى يطلع الفجر" بطل المعنى الذي ذكره أبو يوسف في تجويزه الأذان قبل طلوع الفجر؛ استدلالا بحديث بلال الذي مضى ذكره بطرق مختلفة.

                                                [ ص: 90 ] وجه بطلان استدلاله: أنه لا يخلو إما أن يقول: المراد من أذان بلال أنه كان صلاة، فإذا كان للصلاة، يجوز الاستدلال به على جواز تقديم الأذان قبل الوقت في الفجر.

                                                فنقول: وإن سلمنا ذلك، ولكن لن نسلم أنه كان مصيبا في قصده، ألا ترى كيف رده -عليه السلام- بقوله: "لا يغرنكم أذان بلال ؛ فإن في بصره شيئا" .

                                                وإما أن يقول: إنه كان يؤذن قبل الفجر عمدا. فنقول: وإن سلمنا أنه كان يؤذن عمدا قبل الفجر، ولكن لا نسلم إنه كان لأجل الصلاة، بل كان لإيقاظ النائم وإرجاع القائم، بدليل حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- حيث قال: "فإنه ينادي ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم" .

                                                قوله: "فلما كان ذلك" عطف على "لما" الأولى، وهو قوله: "لما رويت هذه الآثار" وقوله: "فقد بطل المعنى" جواب "لما" في الموضعين، وفي بعض النسخ "فإن كان كذلك" موضع "فلما كان كذلك" فعلى هذه النسخة تكون الجملة خبر "فلما رويت" فافهم.

                                                ورجال حديث الأسود ثقات، وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله السبيعي .

                                                وأخرجه البيهقي : من حديث الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود : "سألت عائشة متى توترين؟ قالت: بين الأذان والإقامة، وما يؤذنون حتى يصبحوا" ثم قال البيهقي : وقول الأسود وغيره: "وما يؤذنون حتى يصبحوا" فيه نظر؛ فقد روينا أن الأذان الأول كان بالحجاز قبل الصبح، وكأن عائشة -رضي الله عنها- كانت تصليها قبل طلوع الفجر، أو أراد به الأذان الثاني. وعلى ذلك تدل رواية ابن أبي خالد ، عن أبي إسحاق قال: "كانت عائشة -رضي الله عنها- توتر فيما بين التثويب والإقامة" فيرجع مذهبها في ذلك كقول علي وعبد الله .

                                                قلت: مذهب علي وابن عباس -رضي الله عنهم-: أن وقت الوتر يمتد إلى بعد طلوع الفجر.

                                                [ ص: 91 ] وروى البيهقي بإسناده عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة : "أن قوما أتوا عليا -رضي الله عنه-، فسألوه عن الوتر. فقال: سألتم عنه أحدا؟ فقالوا: سألنا أبا موسى ، فقال: لا وتر بعد الأذان. فقال: لقد أغرق النزع فأفرط في الفتوى، كل شيء ما بينك وبين صلاة الغداة وتر، متى أوترت فحسن" .

                                                وقال مالك في "موطئه": بلغني أن عبد الله بن عباس ، وعبادة بن الصامت ، والقاسم بن محمد ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة قد أوتروا بعد الفجر.

                                                ثم قال: وإنما يوتر بعد الفجر من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر.

                                                وقال القاضي عياض : وقت الوتر المتفق عليه عند كافة العلماء ما لم يطلع الفجر، واختلفوا؛ هل يصلي بعد طلوع الفجر إلى أن يصلي الصبح؟ وهل ذاك وقت ضرورة لمن تركها، أو نام عنها، أو نسيها؟ فذهب جمهورهم - وهو مشهور قول مالك والشافعي - جواز ذلك مع كراهة تعمده، وأنه وقت ضرورة لها - وحكي عن ابن مسعود وغيره أن وقتها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح - وذهب الكوفيون إلى منع صلاته بعد طلوع الفجر، وقاله جماعة من السلف، وأبو مصعب وبعض أصحابنا، وحكاه الخطابي عن مالك ، وسيجيء الكلام فيه مستقصى في باب الوتر إن شاء الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية