5930 ص: وهذه الآثار فقد جاءت على معان مختلفة، فأما ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -، فروى عن النبي -عليه السلام- نهى عن المزارعة، ولم يبين أي مزارعة هي؟
[ ص: 306 ] فإن كانت هي المزارعة على جزء معلوم مما تخرج الأرض، فهذا الذي يختلف فيه هؤلاء المحتجون بهذه الآثار ومخالفوهم.
وإن كانت تلك المزارعة التي نهي عنها هي المزارعة على الثلث والربع، وشيء غير ذلك مما يخرج مما يزرع في موضع من الأرض بعينه، فهذا مما يجمع الفريقان جميعا على فساد المزارعة عليه، وليس في حديث ثابت هذا ما ينفي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد معنى من هذين المعنيين بعينه دون المعنى الآخر.
وأما حديث جابر بن عبد الله فإنه قال فيه: "كان لرجال منا فضول أرضين، وكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع، فقال رسول الله -عليه السلام-: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبي فليمسك".
ففي هذا الحديث أنه لم يجز لهم إلا أن يزرعوها بأنفسهم أو يمنحوها من أحبوا، ولم يبح لهم في هذا الحديث غير ذلك، فقد يحتمل أن يكون ذلك النهي كان على أن لا تؤاجر بثلث ولا بربع ولا بدراهم ولا بدنانير ولا بغير ذلك، فيكون المقصود إليه بذلك النهي: هو إجارة الأرض، وقد ذهب قوم إلى كراهة إجارة الأرض بالذهب والفضة.
حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عمر ، قال: ثنا حماد بن زيد ، قال: أخبرني عمرو بن دينار ، قال: " كان طاوس يكره كراء الأرض بالذهب والفضة".
فهذا طاوس يكره كراء الأرض بالذهب والفضة، ولا يرى بأسا بدفعها ببعض ما تخرج، وسنخبر بذلك فيما بعد إن شاء الله.
فإن كان النهي الذي في حديث جابر وقع على الكراء أصلا بشيء مما تخرج وبغير ذلك، فهذا معنى يخالفه الفريقان جميعا.
وقد يحتمل أن يكون النهي وقع لمعنى غير ذلك، فنظرنا هل روى أحد عن جابر في ذلك شيئا يدل على المعنى الذي كان من أجله كان النهي؟
[ ص: 307 ] 5931 فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن نافع المدني ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- بلغه أن رجالا يكرون مزارعهم بنصف ما يخرج منها، وبثلثه بالماذيانات، فقال في ذلك رسول الله -عليه السلام-: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يفعل فليمسكها".
5932 حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني هشام بن سعد ، أن أبا الزبير المكي ، حدثه، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: " كنا في زمن رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك".
5933 حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال: ثنا زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، عن جابر، قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -عليه السلام- فنصيب من كذا، فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليجريها أخاه وإلا فليدعها".
فأخبر أبو الزبير في هذا عن جابر بالمعنى الذي وقع النهي من أجله، وأنه إنما هو لشيء كانوا يصيبونه في الإجارة، فكأن النهي من قبل ذلك جاء، وقد يحتمل أن يكون معنى حديث ثابت بن الضحاك الذي ذكرنا كذلك، والله أعلم.
وأما حديث رافع بن خديج فقد جاء بألفاظ مختلفة اضطرب علينا من أجلها. فأما حديث ابن عمر عنه فهو مثل حديث ثابت بن الضحاك: " ؛ أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزارعة"، فهو يحتمل أيضا ما وصفنا من معاني حديث ثابت على ما ذكرنا وبينا، وأما من رواه على مثل ما روى جابر، فيحتمل أيضا ما وصفنا مما يحتمله حديث جابر - رضي الله عنه -.


