الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6475 ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في ذلك أيضا ما حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان ، عن أبيه ، عن لبيد بن شماس ، قال: قال عبد الله: " : إن القوم ليجلسون على الشراب وهو حل لهم، فما يزالون حتى يحرم عليهم".

                                                6476 حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا حجاج ، قال: ثنا حماد، قال: أنا حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة بن قيس : "أنه أكل مع عبد الله بن مسعود خبزا ولحما. قال: فأتينا بنبيذ شديد نبذته امرأته سيرين في جرة خضراء، فشربوا منه".

                                                6477 حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا نعيم وغيره ، قالوا: أنا جرير، قال: ثنا حجاج ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال: "سألت ابن مسعود عن قول رسول الله -عليه السلام- في المسكر، فقال: الشربة الأخيرة".

                                                فهذا عبد الله بن مسعود قد روي عنه في إباحة قليل النبيذ الشديد من فعله وقوله ما ذكرنا، ومن تفسيره قول رسول الله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" على ما وصفنا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن عبد الله بن مسعود أيضا فيما ذكرنا من أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يسكر، وأن القليل من النبيذ الشديد مباح؛ وذلك لأنه صرح بقوله: "إن المحرم هو الشربة الأخيرة" في تفسير قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، وفعله أيضا طابق قوله؛ وذلك لأن علقمة قد حكى عنه أنه شرب نبيذا مشتدا كان قد عمل في جرة خضراء، فهذا فعله، وقوله: وتفسيره قول النبي -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" دل على إباحة شرب القليل من النبيذ الشديد، وعلى أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يسكر.

                                                [ ص: 112 ] ثم إنه أخرج عن ابن مسعود من ثلاث طرق:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود ، عن سفيان الثوري ، عن أبيه سعيد بن مسروق ، عن لبيد بن شماس .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن أبي الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن شماس، قال: قال عبد الله: "ما يزال القوم وإن شرابهم لحلال [فما يقومون] حتى يصير عليهم حراما".

                                                فإن قلت: قال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يصح؛ لأن لبيدا اختلف في اسمه، فقيل: لبيد بن شماس، وقيل: شماس بن لبيد، وهو لا يعرف، ولم يرو عنه أحد إلا سعيد بن مسروق، ولا روي عنه إلا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجة. وكذا قال ابن حزم: لبيد مجهول.

                                                قلت: لبيد بن شماس هو شماس بن لبيد، وكلاهما واحد، وقد ذكر ابن حبان شماسا في كتاب الثقات، فزالت الجهالة بذلك.

                                                الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن الحجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس .

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن حزم وقال: هذا خبر صحيح، وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وفاق إلا هذا الخبر وحده، إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة أوجه.

                                                أحدها: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله -عليه السلام-.

                                                والثاني: أنه قد صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر [ ص: 113 ] مما يسكر كثيره، وعن غيره من الصحابة أيضا، وإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة فليس بعضه أولى من بعض.

                                                والثالث: أنه قد يحتمل أن يكون قول علقمة نبيذا شديدا، أي: خاثرا لفيفا حلوا فهذا ممكن.

                                                قلت: يكفينا اعتراف الخصم بصحة ما احتججنا به، ثم قوله: "إلا أنه يسقط...." إلى آخره فيه أشياء:

                                                أما الأول: فلأن فعل الصحابي وقوله حجة.

                                                وأما الثاني: فقد صح عنه ما ادعينا، وإن كان صح عنه غيره أيضا.

                                                وأما الثالث: فهو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.

                                                قوله: "نبذته امرأته سيرين". أي امرأة عبد الله بن مسعود، وهي أم أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود .

                                                الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن نعيم بن حماد المروزي وغيره، عن جرير بن عبد الحميد ، عن الحجاج بن أرطأة النخعي ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ...إلى آخره.

                                                وأخرجه الدارقطني: ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، ثنا العباس بن عبيد الله، ثنا عمار بن مطر، ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن الحجاج ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل مسكر حرام، قال عبد الله: هي الشربة التي أسكرتك".

                                                قال: وحدثنا عمار بن مطر، ثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم .

                                                قوله: "كل مسكر حرام؛ هي الشربة التي أسكرتك". وهذا أصح من الذي قبله، ولم يسنده غير الحجاج، واختلف عنه.

                                                [ ص: 114 ] وعمار بن مطر ضعيف. وحجاج ضعيف وإنما هو من قول إبراهيم النخعي .

                                                حدثنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن مشكان المروزي، ثنا عبد الله بن محمود، ثنا العباس بن زرارة، ثنا جرير ، عن الحجاج ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال: "كل مسكر حرام؛ هي الشربة التي تسكرك".

                                                حدثنا أبو سعيد، ثنا عبد الله بن محمود، ثنا عبد الكريم بن عبد الله ، عن وهب بن زمعة ، عن سفيان بن عبد الملك، أنه ذكر عنده حديث ابن مسعود: "هي الشربة التي تسكرك". فقال عبد الله بن المبارك: هذا حديث باطل.

                                                ثنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا محمد بن حماد بن ماهان، ثنا عيسى بن إبراهيم، ثنا المعافي بن عمران ، عن مسعر بن كدام ، عن حماد ، عن إبراهيم أنه قال في هذا الحديث الذي جاء: "كل مسكر حرام، هو القدح الذي يسكر منه". هذا هو الصحيح عن حماد أنه من قول إبراهيم انتهى.

                                                قلت: صرح علقمة بأنه سأل ابن مسعود - رضي الله عنه - عن قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" فأجاب عنه بأنه الشربة الأخيرة. ولئن سلمنا أن هذا من قول إبراهيم النخعي، ففيه كفاية في هذا التفسير. وإبراهيم ليس بقليل.




                                                الخدمات العلمية