الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6471 ص: وقد روي عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- نحو حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

                                                [ ص: 104 ] أخبرنا فهد ، قال: ثنا محمد بن سعيد ، قال: حدثني يحيى بن اليمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن خالد بن سعد ، عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: "عطش النبي -عليه السلام- حول الكعبة ، فاستسقى فأتي بنبيذ من نبيذ السقاية، فشمه فقطب، فصب عليه ماء من ماء زمزم ثم شرب، فقال رجل: أحرام؟ فقال: لا".

                                                التالي السابق


                                                ش: محمد بن سعيد بن الأصبهاني - شيخ البخاري .

                                                ويحيى بن اليمان الكوفي، روى له الجماعة البخاري مقرونا بغيره.

                                                وسفيان هو الثوري .

                                                ومنصور هو ابن المعتمر .

                                                وخالد بن سعد مولى أبي مسعود الأنصاري، وثقه يحيى وغيره، وروى له البخاري والنسائي وابن ماجه .

                                                وأبو مسعود الأنصاري اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة .

                                                وأخرجه النسائي: عن الحسن بن إسماعيل بن سليمان ، عن يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن خالد بن سعد، إلى آخره نحوه.

                                                وقال النسائي: هذا خبر ضعيف؛ لأن يحيى بن اليمان انفرد به دون أصحاب سفيان، ويحيى لا يحتج به لسوء حفظه وكثرة خطئه.

                                                وقال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يحل لأحد من أهل العلم أن يحتج به؛ لأن ابن يمان انفرد به عن الثوري دون أصحابه، وابن اليمان ليس بحجة.

                                                وأصل هذا الحديث أنه من رواية الكلبي، فغلط يحيى بن يمان فنقل متن حديث إلى حديث آخر، وقد سكت العلماء عن كل ما رواه الكلبي فلم يحتجوا بشيء منه.

                                                ولما أخرج ابن أبي عاصم هذا الحديث في كتاب "الأشربة" قال: لا خلاف بين أهل الحديث والمعرفة أن هذا حديث منكر.

                                                [ ص: 105 ] ثم خالد بن سعد هو مجهول عندي لا يروي عنه إلا منصور، ومن لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول.

                                                حدث عن أبي سعيد في "النهاية" وعن أم ولد لأبي مسعود: "أنها كانت تنبذ له في جر أخضر". ولم يقل: سمعت أبا مسعود ولا حدثنا أبو مسعود، فأرى أن يكون بينه وبين أبي مسعود إنسان، فوجب أن لا يقبل خبره عن أبي مسعود إلا بأن يقول: حدثنا أو شبهه.

                                                وقال أبو أحمد الجرجاني: الذي ينكر على خالد بن سعد حديث النبيذ وحديث "لا تتم على عبد نعمة إلا بالجنة" وفي موضع آخر روى عن أبي مسعود في النبيذ ولا يصح، هو موقوف.

                                                وقال الدارقطني: حديث أبي مسعود معروف بيحيى بن يمان، ويقال: إنه انقلب عليه الإسناد واختلط عليه بحديث الكلبي عن أبي صالح، وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل": قال أبو زرعة: هذا إسناد باطل عن الثوري عن منصور، وهم فيه يحيى، وإنما ذاكرهم سفيان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن المطلب بن أبي وداعة مرسل. ولعل الثوري إنما ذكره تعجبا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث، ومنكرا عليه.

                                                قال: وقال أبي: أخطأ ابن يمان في إسناده، والذي عندي أن يحيى دخل له حديث في حديث رواه الثوري عن منصور ، عن خالد مولى أبي مسعود: "أنه كان يشرب نبيذ الجر".

                                                وعن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن المطلب ، عن النبي -عليه السلام-: "أنه كان يطوف بالبيت...." الحديث.

                                                فسقط عنه إسناد الكلبي وجعل إسناد منصور ، عن خالد ، عن أبي مسعود، لمتن حديث الكلبي، وقال أحمد: الكلبي متروك.

                                                [ ص: 106 ] وأبو صالح اسمه باذان وهو ضعيف، وقال الأثرم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": هذا حديث يحتج به من لا فهم له في العلم ولا معرفة له بأصوله، وقد سمعت من أبي عبد الله ومن غيره من أئمة الحديث كلاما كثيرا وبعضهم يزيد على بعض في تفسير قصته؛ فقال بعضهم: هذا حديث لا أصل له ولا فرع، قال: وإنما أصله من الكلبي وهو متروك، وكان ابن يمان عندهم ممن لا يحفظ الحديث ولا يكتبه؛ فكان يحدث من حفظه بأعاجيب، وهذا من أنكر ما روي.

                                                قلت: هذا الكلام كله على يحيى بن يمان ، ويحيى بن يمان من رجال مسلم والأربعة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال ابن المديني: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": ثقة، أحد أصحاب سفيان. وذكره ابن شاهين في كتاب "الثقات" وقال: قال عثمان بن أبي شيبة: كان صدوقا ثقة. وقال الخليلي: ثقة.

                                                وذكره البستي في جملة "الثقات"، وقال العجلي: كان ثقة جائز الحديث، معروفا بالحديث صدوقا.

                                                فإذا كان كذلك كيف يقال فيه: يحيى بن يمان لا يحتج به؟! وما بال حديثه يضعف إذا انفرد.

                                                وأما خالد بن سعد فإنه من رجال صحيح البخاري، فكيف يقول ابن أبي عاصم فيه: مجهول لا يروي عنه إلا منصور ؟! وهذا فاسد؛ لأن إبراهيم النخعي وأبا حصين عثمان بن عاصم رويا عنه أيضا، وقال يحيى بن معين: ثقة. وذكره ابن حبان وابن خلفون في كتاب "الثقات". وخرج البخاري حديثه في "صحيحه" على سبيل الاحتجاج به.

                                                قوله: "من نبيذ السقاية" وهو ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام، وقد [ ص: 107 ] ورد في الحديث "كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت".

                                                قوله: "فقطب" أي عبس وجهه من التقطيب.

                                                ويستنبط منه:

                                                إباحة القليل من النبيذ المشتد؛ لأنه يدل صريحا عليه.

                                                وأن ما أسكر كثيره فقليله يباح ما لم يسكر، ألا ترى أنه -عليه السلام- قد شرب من نبيذ السقاية وكان مشتدا، ولما سأله ذلك الرجل بقوله: "أحرام هو؟ فقال: لا" فدل أن الشرب من النبيذ المشتد مباح ما لم يسكر. وقد احترق بعضهم في التشنيع على من يذهب إلى هذا الحديث وأمثاله، وقال هؤلاء: زعموا أنه -عليه السلام- شرب من نبيذ السقاية نبيذا شديدا، فجعلوه حجة في تحليل المسكر، وأنه لم يقطب إلا من شدته، فيقال لهم: أيكون من النقيع ما يشتد وهو حلو قبل غليانه؟ فيقولون: لا. فيقال لهم: أرأيتم نبيذ السقاية أنقيع هو أم مطبوخ؟ فيقولون: نقيع. فإذا هم قد تكلموا بالكفر أو شبهه حين زعموا أن النبي -عليه السلام- شرب نقيعا مشتدا، وأنه لا يشتد حتى يغلي، وأنه إذا غلى النقيع فهو خمر.

                                                فهم يرون بأنه خمر، وهم يزعمون بأن النبي -عليه السلام- قد شربه.

                                                قلت: هذا كلام خباط؛ لأنهم متى حللوا المسكر حتى يقيموا عليه حجة: فهل يحلل المسلم المسكر؟! وهل يصدر من مسلم نسبة النبي -عليه السلام- إلى شرب المسكر من النبيذ؟! غاية ما في الباب أنهم قالوا: إن شرب القليل من النبيذ المشتد مباح، وما أسكر كثيره فقليله لا يحرم إلا بالإسكار. ثم احتجوا على ذلك بأنه -عليه السلام- قد شرب من نبيذ السقاية وكان مشتدا، وشربه -عليه السلام- منه ما كان مسكرا وإنما كان مشتدا، فلذلك قطب، ثم صب عليه ماء من زمزم. ولكن هؤلاء لفرط تعصبهم وشدة حطهم على من يذهب إلى هذا المذهب يتكلمون بالخرافات من غير ترو، ولا مبالاة عما يترتب عليهم من ذلك عند الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية