الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6468 ص: وهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وهو أحد النفر الذين رووا عن النبي -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" قد روي عنه عن النبي -عليه السلام- ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا [ ص: 100 ] أبو نعيم ، قال: ثنا عبد السلام بن حرب ، عن ليث ، عن عبد الملك ابن أخي القعقاع بن شور ، عن ابن عمر قال: " شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب، فأدناه إلى فيه، فقطب فرده، فقال رجل: يا رسول الله، أحرام هو؟ فرد الشراب ثم دعا بماء فصبه عليه – ذكر مرتين أو ثلاثا- ثم قال: إذا اغتلمت هذه الأسقية عليكم فاكسروا متونها بالماء".

                                                6469 حدثنا وهبان بن عثمان البغدادي، قال: ثنا أبو همام ، قال: ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال: حدثني قرة العجلي ، قال: حدثني عبد الملك ابن أخي القعقاع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثله.

                                                6470 حدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، قال: حدثني أسباط بن محمد ، عن الشيباني ، عن عبد الملك بن نافع قال: "سألت ابن عمر فقلت: إن أهلنا ينتبذون نبيذا في سقاء لو أنهكته لأخذني؟ فقال ابن عمر: : إنما البغي على من أراد البغي، شهدت رسول الله -عليه السلام- عند هذا الركن، فأتاه رجل بقدح من نبيذ...." ثم ذكر مثل حديث ابن أمية، ، غير أنه قال: "فاكسروها بالماء".

                                                ففي هذا إباحة قليل النبيذ الشديد، وأولى الأشياء بنا إذا كان قد روى هذا عن النبي -عليه السلام-، وروي عنه عن النبي -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" أن يجعل كل واحد من القولين على معنى غير المعنى الذي عليه القول الآخر، فيكون قوله: "كل مسكر حرام" على المقدار الذي يسكر من النبيذ، ويكون ما في الحديث الآخر على إباحة قليل النبيذ الشديد.

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر هذا أيضا شاهدا لصحة التأويل الذي ذكره في قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" وهو أن المراد منه المقدار الذي يسكر من النبيذ، بيانه: أن عبد الله بن عمر هو أحد الرواة عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام".

                                                ثم روي عنه عن النبي -عليه السلام- ما فيه دلالة على إباحة قليل النبيذ الشديد، فدل ذلك أن المراد من قوله: "كل مسكر حرام" هو المقدار المسكر لا ما دون ذلك، كما ذكرناه مستقصى.

                                                [ ص: 101 ] وأخرج ما روي عنه عن النبي -عليه السلام- من ثلاث طرق:

                                                الأول: عن أبي أمية عبد الملك بن مروان الرقي ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري ، عن عبد السلام بن حرب الملائي ، عن ليث بن أبي سليم القرشي ، عن عبد الملك بن نافع الشيباني الكوفي ابن أخي القعقاع بن شور، ويقال: عبد الملك بن القعقاع، ويقال: عبد الملك بن أبي القعقاع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

                                                وأخرجه النسائي: أنا زياد بن أيوب، ثنا هشيم، أنا العوام ، عن عبد الملك بن نافع، قال: قال ابن عمر: "رأيت رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدح فيه نبيذ وهو عند الركن، ودفع إليه القدح، فرفعه إلى فيه فوجده شديدا، فرده على صاحبه، فقال له رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو؟ فقال: علي بالرجل، فأتي به، فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه، ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه، ثم قال: إذا اغتلمت عليكم هذا الأوعية فاكسروا متونها بالماء".

                                                الثاني: عن وهبان بن عثمان البغدادي ، عن [..]، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الأحمسي ، عن قرة العجلي ، عن عبد الملك ابن أخي القعقاع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع ، عن إسماعيل ، عن قرة العجلي ، عن عبد الملك بن القعقاع ، عن ابن عمر قال: "كنا عند النبي -عليه السلام- فأتي بقدح فيه شراب، فقربه ثم رده. فقال له بعض جلسائه: حرام هو يا رسول الله؟

                                                [ ص: 102 ] قال: فقال: ردوه، فردوه، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب، فقال: انظروا هذه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء".


                                                الثالث: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي ، عن أسباط بن محمد القرشي ، عن أبي إسحاق سليمان الشيباني ، عن عبد الملك بن نافع ...إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي: أخبرني زياد بن أيوب ، عن أبي معاوية، ثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن عبد الملك بن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي -عليه السلام- بنحوه.

                                                وأخرجه الدارقطني: ثنا إسحاق بن محمد بن الفضل الزيات، ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن مالك بن القعقاع: "سألت ابن عمر عن النبيذ الشديد فقال: جلس رسول الله -عليه السلام- في مجلس، فوجد من رجل ريح نبيذ، فقال: ما هذه الرياح؟ قال: ريح نبيذ. قال: فأرسل فليؤت منه فأرسل فأتي به فوضع فيه رأسه فشمه ثم رجع فرده، حتى إذا قطع الرجل البطحاء رجع قال: أحرام هو يا رسول الله أم حلال؟ قال: فوضع رأسه فيه فوجده شديدا، فصب عليه الماء ثم شرب، قال: إذا اغتلمت أسقيتكم فاكسروها بالماء".

                                                فإن قيل: قال البيهقي: عبد الملك مجهول، ويقال: ابن القعقاع، وقيل: ابن أبي القعقاع، وقيل: مالك بن القعقاع، وقيل: عبد الملك بن نافع. قال البخاري: لم يتابع على حديثه عن ابن عمر في النبيذ. وقال النسائي: ليس بمشهور ولا يحتج بحديثه، وقال الدارقطني: هو رجل مجهول ضعيف، والصحيح عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام-: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وفي "العلل" عن ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث منكر، وعبد الملك بن نافع شيخ مجهول. وقال في كتاب "الجرح والتعديل": شيخ مجهول لم يرو إلا حديثا واحدا، قطع الشيباني ذلك الحديث فجعله حديثين، لا يثبت حديثه، منكر الحديث.

                                                [ ص: 103 ] وقال ابن حزم: أسباط بن محمد وليث بن أبي سليم وقرة العجلي والعوام كلهم ضعفاء. وعن يحيى بن معين: قرة العجلي عن عبد الملك ابن أخي القعقاع ضعيف لا شيء. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه.

                                                قلت: أما عبد الملك بن نافع فذكره ابن حبان في "الثقات"، حكى عنه صاحب "الجوهر النقي".

                                                وأما أسباط بن محمد القرشي فإنه من رجال الصحيحين، وأخرجت له الجماعة، ووثقه يحيى بن معين ويعقوب بن شيبة، وفي رواية عن يحيى: ثبت. وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات".

                                                وأما ليث بن أبي سليم فلا يقال: إنه ضعيف على الإطلاق للاختلاف في حاله، وأكثر الناس وثقوه، فإطلاق الضعف عليه غير مقبول، واحتجت الأربعة بحديثه.

                                                وأما قرة العجلي فقد ذكره ابن حبان في "الثقات".

                                                قوله: "فقطب" أي عبس وجهه من التقطيب، وقد ذكرناه عن قريب.

                                                قوله: "إذا اغتلمت هذه الأسقية" أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر. وأصله من غلم غلمة واغتلم اغتلاما. وهو هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل وغيرهما. والأسقية جمع سقاء وهي الدلو.

                                                قوله: "متونها" أي قوتها وشدتها. المتون والمتانة بمعنى.

                                                قوله: "لو أنهكته" أي: لو بالغت في شربه وكثرت منه لأخذني من شدته وقوته.

                                                قوله: "إنما البغي" البغي: مجاوزة الحد.




                                                الخدمات العلمية