فإن قال أحد ، أو تخيل : إنا نسينا ذلك الميثاق لما جئنا في الدنيا ، فأي حجة علينا في أمر نسيناه ، ولا نذكره ؟ 
فهذا القول ، والخيال منه غلط ، وباطل ؛ لأن أمورا كثيرة لا تبقى للإنسان في الذكر . 
ولكن لما يقولها الناس المعتبرون ، والأشخاص المعتدون ، يتيقن بها . 
أليس أن الإنسان لا يتذكر ولادته من بطن أمه حين ولد منها ؟ ثم إذا يقول الناس له : إنك ولدت من أمك الفلانية ، ويذكرونه ، يتيقن ، ويقر بذلك، ويعترف ، ويعلم أمه أنها أمه ، ولا يقول لغيرها : إنها أمه ؟ فإذا أضاع حق أمه ، واتخذ غيرها أمه ، يمحقه الناس ، ويسفهونه ، ويقبحونه ، فإن قال: إني لا أتذكر  [ ص: 395 ] أنها أمي ، وأنها ولدتني حتى أعلمها أمي ، يقول الناس : إنه أحمق ، شديد الحماقة ، ويكون مسيء الأدب بها ، فإذا تحصل اليقين بقول عامة الناس : إن الفلانية أمه ، وإن الأمور الكذائية كانت كذلك، فكيف لا يتحصل اليقين بقول الأنبياء والمرسلين ، ولا يحصل التصديق بخبرهم ، وهم أعلى رتبة من جميع الناس ، وأصدقهم بلا وسواس ؟ ! 
والحديث دال على أن حكم أصل التوحيد ، والمنع من الشرك قاله الله تعالى لكل واحد في عالم الذر ، والأرواح . 
والأنبياء كلهم أجمعون جاءوا لتأكيده ، وتذكيره ، ونزلت الكتب السماوية جميعها لبيانه . 
وقد قيل: إن الأنبياء جاءت مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا ، والكتب كانت أربع مائة . 
فكيف يظن أن هذا المقدار الكثير من الرسل والكتب المخبر بهذه القصة ليس بصادق ؟ . 
هل يقول بذلك أحد ممن له أدنى ملابسة بالعقل ، والفهم ، وأقل شعور بالحال ، وأيسر فقه في المقال ؟ 
بل هذه النكتة الواحدة تكفي في تصحيح التوحيد ، والتبعيد من الشرك القبيح . 
فوجب ألا يعلم أحدا حاكما سوى الله سبحانه ، ولا يعتقد التصرف لأحد في شيء ، ولا يتخذ أحدا ربا إلا إياه . 
فيطلب منه حاجته ، ويريد منه إنجاح مرامه ، ويستعين به في كشف الكربات ويستغيث منه في قضاء الحاجات . 
وقد تقدم تفسير هذه الآية الكريمة في هذا الباب ، فراجعه . 
وقد أخرج إمام أهل السنة والجماعة على الإطلاق  أحمد بن حنبل  المشهور  [ ص: 396 ] في الآفاق -رحمه الله - عن  معاذ بن جبل   - رضي الله عنه - كما في باب : الكبائر من «المشكاة » ، قال: 
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشرك بالله شيئا ، وإن قتلت ، وحرقت »  . 
أي : لا تعتقد ضرا ، ولا نفعا ، ولا عطاء ، ولا منعا في أحد غير الله ، ولا تخف إلا إياه ، ولا تظن أن خبيثا ، أو شيطانا يؤذيك . 
بل كما يجب على المسلم أن يصبر على البلايا الظاهرة ، ولا يفسد دينه من خوفهم ، فكذلك عليه أن يصبر على أذى الشياطين ، والخبث ، والخبيثات . 
ولا يؤمن بهم خوفا من أضرارهم ، بل يؤمن بأن الأمور كلها بيد الله ، وتحت مشيئته ، وقضائه ، وقدره . 
ولكنه سبحانه قد يمتحن بعض عباده بإيصال الضرر من بعض الأشرار إلى الأخيار ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، وامتيازا في تفرقة الحق من الباطل ، وليميز الله المؤمن من المنافق ، والخبيث من الطيب . 
فكما أن المتقين يصل إليهم من الأشقياء أذية ، وأن المسلمين يتأذون من أيدي الكفار المشركين بإرادة الله تعالى ، وهم يصبرون على ذلك، ولا يجدون بدا منه ، ولا يفسدون دينهم به ، فكذلك يصل إليهم الأذى من أيدي أولئك الأشرار من الجنيات ، والخبائث ، والشياطين تارة فتارة . 
فسبيل المؤمن الصادق أن يصبر على تلك الحال  ، ولا يظن لهم تصرفا أصلا ؛ فإنهم لا تصرف لهم ، ولا قدرة على شيء إلا أن يشاء الله رب العالمين . 
فما لنا وللإيمان بهم ، والخوف منهم ، والإطاعة ، والنذر لهم ؟ 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					