الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وصفاته أكثر من أن تحصى.

ومن أبلغ من الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستدلال والنظر وأصدق من الله قيلا فيما هدى الناس إليه من الاعتبار بخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار وما بينهن؟

وأما نصب الأدلة التي أحدثها الطائفة المتكلمة في الإسلام، وجاؤوا بها على نهج الفلاسفة الطغام، وزادوا عليها من عند أنفسهم ما نهوا عن الخوض فيه، والإتيان به، ودعوا الناس إليه، وألزمهم العلم، والاعتقاد به، فليس من الشرعة الحقة في صدر، ولا ورد.

وليس عليه أثارة من علم، وإنما هو من الجهل البسيط والمركب بمكان لا يخفى على من له أدنى إلمام بالقرآن والحديث، وطريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

ويا لله العجب من قوم إذا سألت عنهم عن فضائل السلف، أقروا بمزيتهم في العلم والعمل عليهم وعلى غيرهم من كل أحد.

وإذا طالبتهم إلى القول بما قالوا، والعمل بما عملوا، والاعتقاد بمثل اعتقادهم الساذج عن أهواء المتكلمين، وآراء المجادلين، اشمأزت قلوبهم، ونفرت طبائعهم كأنهم كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة [المدثر:51]. [ ص: 148 ]

وبالجملة: فالحق الحقيق بالقبول الذي أنزل الله تعالى لأجله كتبه، ودعا إليه كل رسول، هو التوحيد الخالص من شوب الأكدار، المصفى من قدرات الأفكار.

وهو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان بوجود الصانع لهذا العالم بالفطرة التي فطر الله الخلق عليها من غير استدلال بأدلة نظرية مبنية على شفا جرف هار، ومعرفته سبحانه بالصفات الواردة في كتابه، وفي أحاديث رسوله، والاكتفاء بمجمل الإيمان على طريق السلف.

هذا «صحيح البخاري» تلو القرآن، فيه كتاب التوحيد: المشتمل على بيان صفات الله تعالى التي ورد بها القرآن، وصحت بها السنة المطهرة على لسان سيد ولد عدنان.

راجعه، تجد فيه من هذا الباب كثيرا طيبا.

قال الحافظ في «الفتح»: تنبيهان.

أحدهما: الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب التوحيد: أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة، فيدخل كل حديث منها في باب، ويؤيده بآية من القرآن، للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقادات، وأن من أنكرها، خالف الكتاب والسنة جميعا.

وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب «الرد على الجهمية» بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع، وهو شيخ شيوخ البخاري: أنه ذكر المبتدعة، فقال: ويلهم! ماذا ينكرون من هذه الأحاديث؟! والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله: إن الله سميع بصير [الحج:75] ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 30] والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [الزمر:67].

ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [النساء: 164]، وكلم الله موسى تكليما [ص:75]، الرحمن على العرش استوى [طه:5]، ونحو ذلك، فلم يزل من العصر إلى غروب الشمس. انتهى. [ ص: 149 ]

ولم يذكر الحافظ تنبيها ثانيا في النسخة التي عندنا، ولا أدري: أهو سهو منه، أو من الكاتب.

وعلى كل حال: فالذي قال ابن أبي مطيع هو الحق الصريح، والصدق الصحيح.

وإن كنت في ريب مما قلنا، فهذا كتاب «الجوائز والصلات في بيان الأسامي والصفات» لبعض أهل العلم.

انظر فيه، فسترى لكل صفة مقدسة من صفات الباري -جل مجده- بابا مستقلا.

وكل باب مصدر بآيات من الكتاب العزيز الناطقة بالصفة التي عقد لها الباب.

وهذا يرشدك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

والسنة المطهرة تصدق الكتاب العزيز، وكذلك الكتاب الكريم يصدق سنة النبي الرؤوف الرحيم: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [النساء:82].

وتلك الصفات الثابتة للرحمن الذي استوى على العرش، وتقدس عن المماثلة، والتشبيه، والتعطيل، والتكيف مجراة على ظاهرها من غير تأويل.

ويعالج التشبيه اللازم في بادئ الأمر منها بكلمة إجمالية: ليس كمثله شيء [الشورى:11]، وهكذا بقوله تعالى: ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص: 4].

ولو ذهبنا إلى تأويل كل صفة، وكل لفظة منها، وقعنا في حيص بيص، وكنا على مراحل شاسعة من أصل التوحيد المطلوب.

ولا وجه لقبول تأويل من عالم من علماء الإسلام، ورد تأول غيره منهم، مع أن الله تعالى لم يوجب على أحد أن يؤول كلامه، وكلام رسوله. [ ص: 150 ]

ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أوجب على الأمة أن يذهبوا في تأويل صفاته العليا إلى مكان بعيد، أو قريب.


بل الذي ندب إليه الشارع، وحث عليه جميع الناس هو الأخذ بظاهر النصوص، والإيمان بألفاظها، مع تفويض علم المتشابهات إليه سبحانه.

ولهذا لا تجد أحدا من سلف الأمة، وأئمتها أول شيئا من صفات الرحمن.

بل صرحوا بأن ذلك من اتباع خطوات الشيطان، وأن التأويل فرع التكذيب، وأن مصرف الكلام بلا برهان شرعي، ودليل سمعي ضرب من التحريف.

والخوض في ذلك قسم من البدعة، والهذيان -عصمنا الله تعالى عن ذلك-.

والمسير إلى توحيد الله تعالى، ومعرفة صفاته العليا، وأسمائه الحسنى بالصعود على سلالم أهل الكلام نقيصة واضحة في الدين، وثلمة بارزة في حصن اليقين.

بل رد للتوحيد الذي دعا إليه الرسول، وندب إليه سبحانه كل جيل من الناس، وقبيل من سفهاء الخلق، والأكياس.

فمن زعم أن الحق في كلام علماء الكلام، والتوحيد هو الذي جاء به هؤلاء الطغام، والملاحدة والفلاسفة اللئام، والقرآن لا يكفي في ذلك، والحديث لا يغني عما هنالك، فقد خرج عن دائرة الإسلام، وعليه دائرة السوء من الله العزيز العلام.

والكلام على هذا المقام طويل جدا يستدعي مؤلفا بسيطا.

وليس من مقصودنا في هذا الكتاب، إنما الغرض بيان التوحيد الخالص، واعتقاد الإله الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، والجمال، دون الكلام على كل صفة صفة، ودون بيان جميع العقائد التي حرروها في كتب أصول الدين؛ لأنها قد قضي الوطر منها في كتب مستقلة ممتعة منتفع بها من مؤلفات بعض التحول الأعلام، ومؤلفات غيره من علماء التوحيد، وفضلاء الحق السديد، فعليك بها إن كنت من أهلها، وإلا فأنت وصنيعك كما قيل: كل نفس ودينها، وكل حزب بما لديهم فرحون. [ ص: 151 ]

وإنما الموعد غدا، والخصومة بين يدي الله سبحانه.

قال تعالى: إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب [هود: 81]، وسيعلم الذين ظلموا [الشعراء: 227]؛ أي: أشركوا بالله، ولم يوحدوه، ولم يعبدوه خالصا مخلصين له الدين أي منقلب ينقلبون .


ستعلم ليلى أي دين تداينت وأي غريم في التقاضي غريمها

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية