الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إطلاق الإله على الهوى

وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [الجاثية: 23]. [ ص: 159 ]

قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه.

وقال قتادة: هو الذي كلما هوي شيئا، ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك شرع، ولا تقوى.

قال الشاعر:


من كل شيء لذيذ أحتسي قدحا وكل ناطقة في الكون يطربني

وقال آخر:


من راقب الناس مات غما     وفاز باللذة الجسور

ونعوذ بالله من جميع ما كرهه الله.

وروي من حديث أبي أمامة مرفوعا بإسناد ضعيف: «ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع».

وفي حديث آخر: «لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك، ردت عليهم، وقيل لهم: كذبتم».

ويشهد بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».

فدل هذا على أن كل من أحب شيئا، وأطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله، فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه.

ويدل عليه أيضا: أن الله سمى طاعة الشيطان معصية، وعبادة، كما قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان [يس: 60].

وقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم -عليه السلام-: أنه قال لأبيه: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [مريم: 44].

فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته، فإنه يعبد الشيطان بطاعته له. [ ص: 160 ]

ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الحجر: 42].

فهم الذين حققوا قول: لا إله إلا الله، وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة، ورجاء، وخشية، وطاعة، وتوكلا.

وهم الذين صدقوا في قول: لا إله إلا الله، وهم عباد الله؛ لأن من قال: لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته، فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [القصص: 50]، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ص: 26].

فيا هذا! كن عبد الله لا عبد الهوى، فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار: أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف: 39].

«تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار».

وآخر الأول: الهم، وآخر الآخر: النار.

والله ما ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت معه إلى شيء من الأغيار.


غير حق برجه دلت رابربود     سدراه توهمان خوابدبود

من علم أن الله تعالى معبود فرد، فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف:110].

كان بعض العارفين يتكلم على بعض أصحابه على رأس جبل، فقال في كلامه: لا ينال أحد مزادة حتى ينفرد فردا بفرد، فانزعج، واضطرب حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدكدكت، وبقي على ذلك ساعة، فلما أفاق فكأنه نشر من قبره.

فإن قول: «لا إله إلا الله»، يقتضي ألا يحب سواه، فإن الله هو الذي يطاع محبة، وخوفا، ورجاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية