الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل -عليه السلام - : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم : 35] .

جمع صنم ، وهو ما كان منحوتا على صورة ، والوثن : ما كان موضوعا على غير ذلك، ذكره الطبري .

وقد يسمى الصنم : وثنا ، ويقال : إن الوثن أعم منه ، وهو قوي . [ ص: 392 ]

والمعنى : اجعلني وأولادي في جانب عن عبادتها ، وباعد بيننا وبينها .

والآية دليل على ذم الشرك ، وعلى الاجتناب منه .

وقد استجاب الله دعاءه -عليه السلام - ، وجعل بنيه أنبياء ، وجنبهم عبادة الأصنام .

وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله : رب إنهن أضللن كثيرا من الناس [إبراهيم : 36] ، وهذا هو الواقع في كل زمان ، فمنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد الأوثان ، والقبور المعبودة داخلة في ذلك.

وإذا عرف الإنسان أن كثيرا وقعوا في الشرك الأكبر ، وضلوا بعبادة الأصنام ، أوجب ذلك خوفه أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله تعالى .

قال إبراهيم التيمي : ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه .

فلا يأمن من الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به ، وبما يخلصه من العلم بالله تعالى ، وبما بعث به رسله ؛ من توحيده ، والنهي عن الشرك به .

وقد سرى هذا الشرك في هذا الزمان ، بل منذ زمن كثير في أكثر الناس ، في غالب الأقطار ، وابتلي به من هو معدود في أهل العلم في قبائله ، وبلاده ، وقل من نجا منه ، ومن أنواعه الخفيات ، بل وأقسامه الجليات .

ولإبليس اللعين في إيقاع الخلق في طرائقه تطورات لا يحصرها العدد ، ولا يبلغ مداها ، ولا يعرفها إلا من عرف الكتاب والسنة حق العرفان ، وتأدب بعطفهما ، ومفاهيمهما .

وأما غير هؤلاء ، فلا أظنهم الناجين ، إلا من رحم الله ، وكتبهم في الصالحين .

وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة -رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا [ ص: 393 ] أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه ، وأنا منه بريء » أخرجه مسلم .

يعني : كما أن الناس يقسمون شيئا مشتركا فيما بينهم ، فإني لا أفعل ذلك ؟ لأني غني أشد الغنى ، فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيري ، فإني أترك نصيبي منه ، وأتركه كله ، وأبرأ منه .

فهذا الحديث دل على أن من عمل عملا لله تعالى ، ثم عمل ذلك العمل لغيره سبحانه ، فقد ثبت الشرك عليه ، وأن عبادة المشرك لله لا يقبلها الله أصلا ، بل يتبرأ منه .

وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- في تفسير قول الله -عز وجل - : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين .

قال : «جمعهم ، فجعلهم أزواجا ، ثم صورهم ، فاستنطقهم ، فتكلموا ، ثم أخذ عليهم العهد ، والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى .

قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع ، والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم ، أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا.

اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، إني سأرسل إليكم رسلي ، يذكرونكم عهدي ، وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي ، قالوا : شهدنا بأنك ربنا ، وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك » .

ذكره صاحب «المشكاة » في باب : الإيمان بالقدر .

والمراد : أن الله تعالى قال هكذا في سورة «الأعراف » ، وفسره أبي بن كعب الأنصاري كاتب الوحي من قراء الصحابة بما تقدم .

وهو في حكم المرفوع ، وإن لم يرفعه ؛ لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد .

وحاصل القصة : أن الله جمع جميع أولاد آدم في موضع واحد ، وجعلهم أزواجا ، فأقام الأنبياء في مكان ، والأولياء في مكان ، والصلحاء في مقام ، [ ص: 394 ] والطلحاء في مقام ، والمطيعين في محل ، والعاصين في محل ، وفرقهم جماعات ، فجعل النصارى في موضع ، واليهود في موضع ، والهنود في مكان ، والمجوس في مقام آخر .

مثلا : صور كل واحد كما هو في الدنيا ؛ من حسن ، وقبيح ، وبصير ، وأعمى ، وأبكم ، وأصم ، ونحوها ، ثم أعطاهم القدرة على التكلم ، ثم قال لهم : ألست بربكم ، فأقر الجميع بأنك ربنا ، واعترفوا بربوبيته سبحانه ، فأخذ عليهم الميثاق ألا يعبدوا إلا إياه ، ولا يعتقدوا أحدا الحاكم والمالك سواه ، وألا يؤمنوا إلا به ، فاعترفت الذرية كلها بذلك، وأشهد الله -تبارك وتقدس - السماوات كلها ، والأرضين كلها ، وآدم أباهم على هذا الميثاق ؛ تقوية للعهد ، وتوثيقا للإقرار .

وقال لهم : إن رسلنا يأتونكم بالكتب من جهتنا لتذكير هذا الاعتراف منكم ، فأقرت كل جماعة على حدة بتوحيد الألوهية ، والربوبية ، وأنكرت الشرك به تعالى ، وهذا دليل على أن ينبغي ألا يستدل بأحد في أمر الشرك ، سواء كان شيخا ، أو أستاذا ، أو أبا ، أو جدا ، أو ملكا ، أو حبرا ، أو راهبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية