الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة [الأحقاف : 5] ؛ أي : لا أحد أضل منه ، ولا أجهل .

فإنه دعا من لا يسمع ، فكيف يطمع في الإجابة ، فضلا عن جلب نفع أو دفع ضر ؟ . فتبين أنه أجهل الجاهلين ، وأضل الضالين . والاستفهام للتوبيخ والتقريع .

ويوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، والمراد بها التأكيد ؛ كقوله تعالى : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ص : 78] . قاله الشهاب .

وقال في «الانتصاف » في هذه الغاية نكتة ، وهي أنه تعالى جعل عدم الاستجابة مغيا بيوم القيامة ، فأشعرت الغاية بانتفاء الاستجابة في يوم القيامة على وجه أبلغ وأتم وأوضح وضوحا ، ألحقه بالبين الذي لا يتعرض لذكره ؛ إذ هناك تتجدد العداوة والمباينة بينها وبين عابديها .

الضمير في قوله : وهم عن دعائهم غافلون الأول للأصنام ، والثاني لعابديها .

والمعنى : الأصنام التي يدعونها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون ؛ لكونهم جمادات ، فالغفلة مجاز عن عدم الفهم فيهم . وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء ؛ لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل . قاله المفسرون .

وأقول : الاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ؛ فالآية شملت كل مدعو من دون الله ، من كل داع ، حيا كان أو ميتا .

والدعاء هو العبادة ، فمن عبد غير الله ، دخل في هذه الآية ، ومعبوده غافل من عبادته هذه، ولا يستجيب له يوم البعث أيضا . [ ص: 418 ]

قال بعض أهل العلم في هذه الآية : يعني : أن هؤلاء المشركين ، هم أشد حماقة في حالهم . تركوا الله القادر العليم ، ودعوا غيره مما لا يقدر على شيء ، ولا يعلم بشيء .

وبيان الحماقة أولا : أنهم لا يسمعون دعاء هؤلاء أصلا ، ولا يعقلونه .

وثانيا : لا قدرة لهم على شيء ، لو دعاهم داع إلى يوم القيامة ، لا يتمكنون من شيء من دعائه والاستجابة له .

فهذه الآية قد علم منها أن بعض المشايخ الذين يدعونهم الناس من أمد بعيد ، ومراحل شاسعة ، وأمكنة قصوى ، ولا يقولون في دعائهم إلا قولهم هذا : يا فلان الحضرة ! ادع الله تعالى ، يقضي بقدرته حاجتي الفلانية .

ويرون أن هذا ليس من الشرك في شيء ؛ لأنهم لم يدعوه ، ولم يعبدوه ، بل طلبوا منه الدعاء في جناب الباري -تعالى شأنه - .

فهذا غلط منهم وهفوة لا يعبأ بها ؛ لأنا سلمنا أن الشرك لم يثبت من قبل دعاء الله تعالى في هذا الأمر ، ولكن ثبت من جهة نداء غير الله ؛ فإنه لم يدعهم إلا بعد أن اعتقد أنهم يسمعون نداءه ودعاءه من قريب وبعيد سواسية ، فكلما ندعوهم ، يسمعون دعاءنا ونداءنا ، وهذا هو الشرك المحض .

وقد قال تعالى في هذه الآية : إن كل من دون الله ، لا يستجيب للداعي المنادي ، بل هو عن صنعه هذا في غفلة . فإذا ثبت كونهم غافلين ، فدعاؤهم لا يأتي إلا من المشركين الجاهلين ، وفيه الشرك ، وهو المنهي عنه ، ولأجله أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب .

التالي السابق


الخدمات العلمية