[ ص: 46 ] وفي هذه السنة : قتل محمد بن هارون  ، وذلك أنه لما تيقن محمد أنه لا عدة له للحصار ، وخاف أن يظفر به وبأصحابه صار إليه حاتم بن الصقر  ، ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقي  وقواده ، فقالوا : قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى ، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك فانظر فيه ، فإنا نرجو أن يكون صوابا . قال : ما هو ؟ قالوا : قد تفرق عنك الناس ، وأحاط بك عدوك من كل جانب ، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس ، فنرى أن تختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء مع ألف رجل ، ونخرج ليلا من هذه الأبواب حتى نلحق بالجزيرة والشام ، فتفرض [الفروض ] وتجبي الخراج ، وتصير في مملكة واسعة ، ويسارع إليك الناس . فقال : نعم ما رأيتم . واعتزم على ذلك . 
فخرج الخبر إلى طاهر  ، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر  ، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك  ، وإلى السندي بن شاهك   : والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها ، ولا يكون لي همة إلا أنفسكم . فدخلوا على محمد  فقالوا : قد بلغنا الذي عزمت عليه ، ولسنا نأمن الذين تخرج معهم أن يأخذوك أسيرا ويأخذوا رأسك ، فيتقربوا بك . 
فأضرب عما كان عزم عليه ، ومال إلى طلب الأمان ، فلما اشتد الحصار عليه فارقه سليمان بن أبي جعفر  ، وإبراهيم بن المهدي  ، ومحمد بن عيسى بن نهيك  ، ولحقوا جميعا بعسكر المأمون ، وقال له  السندي   : بادر بنا إلى هرثمة  ، واخرج ليلا ، فغضب طاهر  ، وأراد أن يخرج إليه . فقيل له يخرج إلى هرثمة  لأنه يأنس به ، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة . فقيل لطاهر   : هذا مكر منه ، وإن الخاتم والقضيب والبردة تحمل معه إلى هرثمة   . 
فاغتاظ وكمن حول القصر كمينا بالسلاح ، وذلك ليلة الأحد لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة ، وذلك لخمس وعشرين من أيلول . 
فلما أراد الخروج استسقى ماء ، فلم يوجد له ، فدعا بولديه فضمهما إليه وقبلهما  [ ص: 47 ] وقال : أستودعكما الله . وجعل يمسح دموعه ، ولبس ثياب الخلافة ، وركب يريد هرثمة  ، وبين يديه شمعة . فلما انتهى إلى دار الحرس قال لخادمه : اسقني من جباب الحرس . 
فناوله كوزا ، فعافه لزهوكته ، فلم يشرب منه ، فلما أن سار في الحراقة خرج طاهر  وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة فانكبت الحراقة ، فغرق محمد  ومن كان فيها ، فشق محمد  ثيابه وسبح حتى عبر ، فصار إلى بستان موسى ، فعرفه محمد بن حميد الطاهري  ، فصاح بأصحابه ، فنزلوا فأخذوه ، فبادر محمد الماء ، فأخذوا بساقيه ، ثم حمل على برذون وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول ، وحمل إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي  ، وكان بباب الكوفة  ، وأردف رجل خلفه ليلا يسفط كما يفعل بالأسير . 
وقيل إنه عرض على الذين أخذوه مائة حبة ، كل حبة قيمتها مائة ألف ، فأبوا أن يتركوه ، وجاء الخبر بذلك إلى طاهر بن الحسين  ، فدعا مولى له يقال له : قريش الدنداني  ، فأمره بقتل محمد  ، فلما انتصف الليل فتح الدار قوم من العجم ، بأيديهم السيوف مسللة ، فلما رآهم قام قائما وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون  ذهبت والله نفسي في سبيل الله ، أما من حيلة ، أما من مغيث ! ؟ فلما وصلوا إليه أحجموا عن الإقدام ، وجعل بعضهم يقول لبعض : تقدم . فأخذ محمد  بيده وسادة وجعل يقول : ويحكم ، إني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن هارون  ، وأخو  المأمون  ، الله الله في دمي . فدخل عليه رجل يقال له : حميرويه - غلام لقريش الدنداني   - فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه ، وضرب وجهه بالوسادة التي كانت في يده ، ودخل جماعة ، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته ، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه ، وأخذوا رأسه ، فمضوا به إلى طاهر  ، وتركوا جثته ، فنصب طاهر  الرأس  [ ص: 48 ] على رمح على برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار ، وفتح باب الأنبار ، وتلى : قل اللهم مالك الملك   . 
وخرج من أهل بغداد  من لا يحصى عدده ينظر إليه ، ثم بعث برأسه إلى المأمون مع الرداء والقضيب والبردة ، فأمر له بألف ألف دينار ، فأدخل ذو الرئاستين الرأس بيده على ترس إلى  المأمون  ، فلما رآه سجد ، وأعطى طاهر بعد قتل محمد  الناس كلهم الأمان ، وهدأ الناس ، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة ، فصلى بالناس وخطبهم ، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة ، وانصرف إلى معسكره . وفي هذه السنة : وثب الجند بعد مقتل محمد  بخمسة أيام بطاهر ، وشهروا السلاح ، ونادوا : يا منصور   . فهرب منهم طاهر  ، وتغيب أياما حتى أصلح أمرهم . 
وكان السبب أنه لم يكن عنده مال ، فضاق به الأمر فهرب ، وانتهب بعض متاعه ، ومضى إلى عقرقوف ، وتهيأ لقتالهم بمن معه من القواد ، فأتوه واعتذروا ، وأحالوا على السفهاء والأحداث ، وسألوه الصفح عنهم ، فأمر لهم برزق أربعة أشهر ، وكان قد أمر بحفظ أبواب المدينة  ، وباب القصر على أم جعفر  ، وموسى  ، وعبد الله  ابني محمد  ، ثم أمر بتحويل زبيدة  وموسى  وعبد الله  معها من قصر أبي جعفر إلى الخلد ، فحولوا ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول ، ثم أمر بحمل موسى  وعبد الله  إلى عمهما . وفي هذه السنة : ورد كتاب  المأمون  بعد قتل محمد  على طاهر  وهرثمة  بخلع القاسم بن هارون  ، فأظهرا ذلك ، ووجها كتبهما به ، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول .
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					