وفي هذه السنة بويع للمأمون البيعة العامة   .  [ ص: 49 ] 
باب ذكر خلافة المأمون  
واسمه : عبد الله بن هارون الرشيد ،  وكان يكنى أبا العباس في أيام  الرشيد  ، وكان في خلافته تكنى بأبي جعفر تفاؤلا بكنية  المنصور   والرشيد  في طول العمر . 
ولد ليلة استخلف الرشيد في ربيع الأول سنة سبعين ، وكان أبيض ، أقنى ، أعين ، جميلا ، طويل اللحية ، قد وخطه الشيب ، ضيق الجبهة ، بخده خال أسود يعلوه صفرة ، ساقاه دون سائر جسده صفراوين كأنهما طليا بالزعفران ، وأمه أمة اسمها مراجل  ، ماتت بعد ولادته بقليل ، فسلمه  الرشيد  إلى سعيد الجوهري  ، وكان من زمن صغره فطنا ذكيا . 
أخبرنا  أبو منصور القزاز  قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي [بن ثابت ] الخطيب  قال : أخبرني الأزهري  قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة  قال : قال أبو محمد اليزيدي   : كنت أؤدب  المأمون  وهو في حجر سعيد الجوهري   . قال : فأتيته يوما وهو داخل ، فوجهت إليه بعض خدمه يعلمه بمكاني ، فأبطأ علي ، ثم وجهت آخر فأبطأ علي ، فقلت لسعيد   : إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر . فقال : أجل ، ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه ، ولقوا منه أذى شديدا ، فقومه بالأدب ، فلما خرج أمرت  [ ص: 50 ] بحمله فضربته سبع درر . قال : فإنه ليدلك عينه من البكاء إذ قيل : هذا جعفر بن يحيى  قد أقبل ، فأخذ منديلا ، فمسح عينيه ، وجمع ثيابه ، وقام إلى فراشه ، فقعد عليه متربعا وقال : ليدخل . فدخل ، فقمت إلى المجلس ، وخفت أن يشكوني إليه ، فألقى منه ما أكره ، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه ، وضحك إليه ، فلما هم بالحركة دعا بدابته ، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ، ثم سأل عني ، فجئت فقال : خذ علي ما بقي من جزئي ، فقلت : أيها الأمير ، أطال الله بقاءك ، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى ، ولو فعلت ذلك لتنكر لي . فقال : أتراني يا أبا محمد  كنت أطلع  الرشيد  على هذا ، فكيف بجعفر بن يحيى  حتى أطلعه أني أحتاج إلى أدب ، أدب يغفر الله لك بعد ظنك ، خذ في أمرك ، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا ، ولو عدت كل يوم مائة مرة . 
وروى الطالقاني  قال : قال  الرشيد  لأبي معاوية الضرير  وهشيم   : إني أسمع من ابني هذا - يعني المأمون - كلاما لست أدري أمن تلقين القيم عليه هو أم من قريحة ؟ 
فادخلا إليه ، فناظراه واسمعا منه ، وأخبراني بما تقفان عليه . فدخلا عليه وهو في أثواب صباه ، فقالا له : إن أمير المؤمنين أمرنا بالدخول عليك ومناظرتك ، فأي العلوم أحب إليك ؟ قال : أمتعها لي . قالا : وما أمتعها لك . قال : أثبتها عن ثقة ، وأقربها من أفهام مستمعيها . فقال له هشيم   : جئناك لنعلمك فتعلمنا . ثم أخبرا  الرشيد  فقالا : إن هذا شيء أوله لحقيق أن يرجى آخره ، ثم أعتق عنه مائة عبد وأمة ، وألزمها خدمته . 
وبلغنا أن أم جعفر  عاتبت  الرشيد  على تقريبه  المأمون  دون ابنها محمد ، فدعا خادما بحضرتها ، وقال له : وجه إلى عبد الله  ومحمد  خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة : ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه ؟ فأما محمد  فقال للخادم الذي مضى إليه : أقطعك وأوليك وأبلغ لك . وأما  المأمون  فرمى الخادم بالدواة وقال : يا ابن اللخناء تسألني ما أفعل بك بموت أمير المؤمنين ؟ بل نكون جميعا فداء له . فرجع بالخبر كل منهما . فقال لأم جعفر : كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركا  [ ص: 51 ] للجزع ، وقد كان  المأمون  يعنى بالعلم قبل ولايته كثيرا حتى جعل لنفسه مجلس نظر . 
أخبرنا  ابن ناصر  قال أخبرنا أبو الحسين بن أيوب  قال : أخبرنا أبو علي بن شاذان  قال : أخبرنا  أبو علي الطوماري  قال : أخبرنا أبو الحسين بن الفهم  قال : حدثنا  يحيى بن أكثم  قال : كان  المأمون  قبل تقلده الخلافة يجلس للنظر ، فدخل يهودي حسن الوجه ، طيب الرائحة ، حسن الثوب ، فتكلم فأحسن الكلام ، فلما تقوض المجلس دعاه  المأمون  فقال له : إسرائيلي ؟ قال : نعم . قال : أسلم حتى أفعل لك وأصنع . فقال : 
ديني ودين آبائي فلا تكشفني . فتركه ، فلما كان بعد سنة جاءنا وهو مسلم ، فتكلم في الفقه ، فأحسن الكلام ، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال : ألست صاحبنا ؟ 
قال : نعم . قال : أي شيء دعاك إلى الإسلام ، وقد كنت عرضته عليك فأبيت ؟ قال : 
إني أحسن الخط ، فمضيت فكتبت ثلاث نسخ من التوراة ، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة ، فبعتها ، فاشتريت . قال : وكتبت ثلاث نسخ من الإنجيل ، فزدت فيها ونقصت فأدخلتها إلى البيعة فاشتريت مني . قال : وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت ، وأدخلتها إلى الوراقين ، فكلما تصفحوها قرؤوا الزيادة والنقصان ورموا بها ، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ ، فكان سبب إسلامي . 
قال  يحيى بن أكثم   : فحججت فرأيت  سفيان بن عيينة  فحدثته بهذا الحديث فقال لي : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل . قلت : في أي موضع ؟ قال : في قوله عز وجل في التوراة والإنجيل : بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء  فجعل حفظه إليهم فضاع . وقال الله عز وجل : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون   . 
فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع . 
أخبرنا القزاز  قال : أخبرنا أحمد بن علي  قال : أخبرنا الحصين بن أبي بكر  قال : أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي  قال : حدثنا عمر بن حفص السدوسي  قال :  [ ص: 52 ] 
حدثنا محمد بن يزيد  قال : استخلف  المأمون  في المحرم سنة ثمان وتسعين [ومائة ] ، وقد سلم عليه بالخلافة قبل ذلك ببلاد خراسان  نحو سنتين ، وخلع أهل خراسان  وغيرها محمد بن هارون   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					