وقرأ حميد بن قيس - بخلاف عنه - "يحسبن " بياء الغيبة . وفي الفاعل وجهان ، أحدهما : أنه مضمر : إما ضمير الرسول ، أو ضمير من يصلح للحسبان أي حاسب . والثاني : - قاله وهشام - وهو أن يكون " الزمخشري الذين قتلوا " قال : "ويجوز أن يكون " الذين قتلوا "فاعلا ، والتقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا . فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأول ؟ قلت : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : " بل أحياء "أي : هم أحياء ، لدلالة الكلام عليهما .
ورد عليه الشيخ بأن هذا التقدير يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره ، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورة ، وعد باب : ربه رجلا ، ونعم [ ص: 481 ] رجلا زيد ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي ، والبدل على خلاف فيه ، وضمير الأمر . قال : " وزاد بعض أصحابنا أن يكون [الظاهر ] المفسر خبرا ، وبأن حذف أحد مفعولي "ظن " اختصارا إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جدا ، نص عليه سيبويه ، ومنعه الفارسي ابن ملكون البتة " .
وهذا من تحملاته عليه . أما قوله " يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره لم يقدره صناعة بل إيرادا للمعنى المقصود ، ولذلك لما أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدره بلفظ " أنفسهم "المنصوبة وهي المفعول الأول ، وأظن أن الشيخ توهم أنها مرفوعة تأكيد للضمير في " قتلوا " ، ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولا أول منصوبة . وأما تمشيته قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك ، وما عليه من "فالزمخشري ابن ملكون ؟ وستأتي مواضع يضطر هو وغيره إلى حذف أحد المفعولين كما ستقف عليه قريبا . وتقدم الكلام على مادة " حسب "ولغاتها وقراءاتها .
وقرأ : " قتلوا "بالتشديد ، ابن عامر وحده في " لو أطاعونا ما قتلوا " ، والباقون بالتخفيف . فالتشديد للتكثير ، والتخفيف صالح لذلك . وهشام
[ ص: 482 ] وقرأ الجمهور " أحياء "رفعا على " بل هم أحياء "وقرأ : " أحياء "وخرجها ابن أبي عبلة على وجهين ، أحدهما : أن تكون عطفا على " أمواتا "قال : " كما تقول : "ظننت زيدا قائما بل قاعدا " . والثاني : - وإليه ذهب أبو البقاء أيضا - أن يكون منصوبا بإضمار فعل تقديره : بل أحسبهم أحياء " . وهذا الوجه سبق إليه الزمخشري أبو إسحاق ، إلا أن الزجاج رده عليه في " الإغفال "قال : " لأن الأمر تعين فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة ، فوجه قراءة الفارسي أن تضمر فعلا غير المحسبة : اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر "انتهى . وهذا تحامل من ابن أبي عبلة . أما قوله : "إن الأمر تعين " يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن ، فكيف يقال فيه : "أحسبهم " بفعل يقتضي الشك ؟ وهذا غير لازم لأن "حسب " قد تأتي لليقين . قال : أبي علي
1491 - حسبت التقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
وقال آخر :
1492 - شهدت وفاتوني وكنت حسبتني فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبي
فـ "حسب " في هذين البيتين لليقين ، لأن المعنى على ذلك ، وقوله : "وذلك ضعيف " يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية ، وليس كذلك ، بل إذا [ ص: 483 ] أرشد المعنى إلى شيء يقدر ذلك الشيء لدلالة المعنى عليه من غير ضعف ، وإن كان دلالة اللفظ أحسن . وأما تقديره هو "أو اجعلهم " قال الشيخ : "هذا لا يصح البتة سواء جعلت " اجعلهم "بمعنى : " اخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو القهم " .
قوله : عند ربهم فيه خمسة أوجه ، أحدهما : أن يكون خبرا ثانيا لـ " أحياء "على قراءة الجمهور . الثاني : أن يكون ظرفا لـ " أحياء "لأن المعنى : يحيون عند ربهم . الثالث : أن يكون ظرفا لـ " يرزقون "أي : يقع رزقهم في هذا المكان الشريف . الرابع : أن يكون صفة لـ " أحياء " ، فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور ونصب على قراءة . الخامس : أن يكون حالا من الضمير المستكن في " أحياء "والمراد بالعندية المجاز عن قربهم بالتكرمة . قال ابن أبي عبلة : " هو على حذف مضاف أي : عند كرامة ربهم "ولا حاجة إليه ، لأن الأول أليق . ابن عطية
قوله : يرزقون فيه أربعة أوجه ، أحدها : أن يكون خبرا ثالثا لأحياء ، أو ثانيا إذا لم تجعل الظرف خبرا . الثاني : أنه صفة لـ " أحياء "بالاعتبارين المتقدمين ، فإن أعربنا الظرف وصفا أيضا فيكون هذا جاء على الأحسن ، وهو أنه إذا وصف بظرف وجملة فالأحسن تقديم الظرف وعديله لأنه أقرب إلى المفرد . الثالث : أنه حال من الضمير في " أحياء "أي : يحيون مرزوقين . والرابع : أن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف ، والعامل فيه في الحقيقة العامل في الظرف . قال في هذا الوجه : " ويجوز أن يكون حالا من الظرف إذا جعلته صفة "أي : إذا جعلت الظرف ، وليس ذلك مختصا بجعله صفة فقط ، بل لو جعلته حالا جاز ذلك أيضا ، وهذه تسمى الحال [ ص: 484 ] المتداخلة ، ولو جعلته خبرا كان كذلك . أبو البقاء