الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (79) قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه : "أن يؤتيه " اسم كان و "لبشر " خبرها . وقوله : ثم يقول للناس عطف على "يؤتيه " ، وهذا العطف لازم من حيث المعنى ، إذ لو سكت عنه لم يصح المعنى ، لأن الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتاب والحكم والنبوة ، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل : إنها لازمة ، فلا غرو أيضا في لزوم المعطوف ، وإنما بينت لك هذا لأجل قراءة سأذكرها . ومعنى مجيء هذا النفي في كلام العرب نحو : "ما كان لزيد أن يفعل " ونحوه نفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين : قسم يكون النفي فيه من جهة الفعل ، ويعبر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية ، لأن الله تعالى لا يعطي الكتاب والحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ، وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكر " ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ويعرف القسمان من السياق .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 273 ] وقرأ العامة : "يقول " بالنصب نسقا على "يؤتيه " ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد ، وأبو عمرو في رواية محبوب : "يقول " بالرفع ، وخرجوها على القطع والاستئناف ، وهو مشكل لما قدمته من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف ، إذ لا يستقل ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القطع والاستئناف ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : عبادا قال ابن عطية : "ومن جموعه عبيد وعبدى . قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى ، وقال بعضهم : العباد لله ، والعبيد والعبدى للبشر ، وقال بعضهم : العبدى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع " عبد "متى سيقت اللفظة في مضمار الترفع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن ، وانظر قوله : والله رءوف بالعباد و عباد مكرمون و يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وأما العبيد فيستعمل في تحقيره ، ومنه قول امرئ القيس :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 274 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1346 - قولا لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال حمزة بن عبد المطلب : " وهل أنتم إلا عبيد لأبي " ، ومنه : وما ربك بظلام للعبيد لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم "فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية " قال الشيخ : "وفيه بعض مناقشة أما قوله : ومن جموعه عبيد وعبدى " فأما "عبيد " فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، "وأما عبدى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث " قلت : لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جمعا معنويا ولا شك أن اسم الجمع جمع معنوي . ثم قال : "وأما ما استقراه من أن " عبادا "يساق في معنى الترفع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد ، وأما قوله : " وأما العبيد فيستعمل في تحقير وأنشد بيت امرئ القيس وقول حمزة "وهل أنتم إلا عبيد أبي " وقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد فاستقراء ليس بصحيح ، وإنما كثر استعمال "عباد " دون "عبيد " لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياسي مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد . قال سيبويه : "وربما جاء فعيلا وهو قليل نحو : الكليب والعبيد " فلما كان فعال مقيسا في جمع "عبد " جاء "عباد " كثيرا . وأماوما ربك بظلام للعبيد فحسن مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيسا - أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله أولئك ينادون من مكان [ ص: 275 ] بعيد وبعده قالوا آذناك ما منا من شهيد فحسن مجيئه بلفظ العبيد مراعاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا في سورة ق : وما أنا بظلام للعبيد لأن قبله : وقد قدمت إليكم بالوعيد وبعده : " وتقول هل من مزيد " . وأما مدلوله فمدلول "عباد " سواء . وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ "عبيد " إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ومن مجموع البيت ، وكذلك قول حمزة : "هل أنتم إلا عبيد أبي " إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين " . قلت : رده عليه استقراءه من غير إتيانه بما يخرم الاستقراء مردود . وأما ادعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق دون لفظ عبيد فممنوع ، ولأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره فالإحالة على اللفظ أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : " لي "صفة لعباد ، و " من دون "متعلق بلفظ " عباد "لما فيه من معنى الفعل ، يجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصص النكرة بالوصف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولكن كونوا أي : ولكن يقول كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا . والربانيون جمع رباني ، وفيه قولان ، أحدهما أنه منسوب إلى الرب ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كرقباني وشعراني ولحياني للغليظ الرقبة والكثير الشعر والطويل اللحية ، ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب ، أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا : رقبي وشعري ولحوي ، هذا معنى قول سيبويه . والثاني : أنه منسوب إلى [ ص: 276 ] ربان والربان هو المعلم للخير ومن يسوس الناس ويعرفهم أمر دينهم ، فالألف والنون دالتان على زيادة الوصف كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، وتكون النسبة على هذا في الوصف نحو أحمري ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1347 - أطربا وأنت قنسري     والدهر بالإنسان دواري



                                                                                                                                                                                                                                      وقال سيبويه : "زادوا ألفا ونونا في الرباني أرادوا تخصيصا بعلم الرب دون غيره من العلوم ، وهذا كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني " وفي التفسير : "كونوا فقهاء علماء " ، ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : "مات اليوم رباني هذه الأمة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بما كنتم الباء سببية أي : كونوا علماء بسبب كونكم . وفي متعلق هذه الباء حينئذ أقوال أحدها : أنه متعلقة بكونوا ، كذا ذكره أبو البقاء والخلاف مشهور . الثاني : أن تتعلق بربانيين ، لأن فيه معنى الفعل . الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لربانيين ذكره أبو البقاء وليس بواضح المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      و "ما " مصدرية ، وظاهر كلام الشيخ أنه يجوز أن تكون غير ذلك ، فإنه قال : "وما الظاهر أنها مصدرية " فهذا يجوز غير ذلك ، وجوازه فيه بعد ، [ ص: 277 ] وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي : بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرط وهو اتحاد المتعلق فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : "تعلمون " مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من : علم يعلم ، أي : تعرفون فيتعدى لواحد ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورة ، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف ، تقديره : تعلمون الناس والطالبين الكتاب ، ويجوز ألا يراد مفعول أي : كنتم من أهل تعليم الكتاب ، وهو نظير : "أطعم الخبز " المقصود الأهم إطعام الخبز من غير نظر إلى من يطعمه ، فالتضعيف فيه للتعدية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل معلم عالم ، وليس كل عالم معلما ، فالوصف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذكر الربانيين ، والرباني يقتضي أن يعلم ويعلم غيره ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      ورجح بعضهم الأولى بأنه لم يذكر إلا مفعول واحد والأصل عدم الحذف ، والتخفيف مسوغ لذلك بخلاف التشديد ، فإنه لا بد من تقدير مفعول ، وأيضا فهو أوفق لتدرسون . والقراءتان متواترتان فلا ينبغي ترجيح إحداهما على الأخرى ، وقد قدمت ذلك في أوائل هذا الموضوع .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 278 ] وقرأ الحسن ومجاهد : "تعلمون " فتح التاء والعين واللام مشددة من "تعلم " والأصل : تتعلمون بتاءين فحذفت إحداهما . وبما كنتم تدرسون كالذي قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على "تدرسون " بفتح التاء وضم الراء من الدرس وهو مناسب لتعلمون من علم ثلاثيا ، قال بعضهم : "كان حق من قرأ " تعلمون "بالتشديد أن يقرأ : " تدرسون "بالتشديد " وليس بلازم ، إذ المعنى : كنتم تعلمون غيركم ثم صرتم تدرسون ، وبما كنتم تدرسونه عليهم أي : تتلونه عليهم كقوله تعالى : لتقرأه على الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو حيوة في إحدى الروايتين عنه "تدرسون " بكسر الراء وهي لغة ضعيفة ، يقال : درس العلم يدرسه بكسر العين في المضارع وهما لغتان في مضارع درس ، وقرأ هو أيضا في رواية : "تدرسون " من درس بالتشديد ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير ، فيكون موافقا لقراءة تعلمون بالتخفيف . والثاني : أن التضعيف للتعدية ويكون المفعولان محذوفين لفهم المعنى ، والتقدير : تدرسون غيركم العلم أي : تحملونهم على الدرس . وقرئ "تدرسون " من أدرس ، كتكرمون من أكرم على أن أفعل بمعنى فعل بالتشديد ، فأدرس ودرس واحد كأكرم وكرم وأنزل ونزل .

                                                                                                                                                                                                                                      والدرس : التكرار والإدمان على الشيء ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن يدرسه ويدرسه أي كرر عليه ، ويقال : درست الكتاب أي : تناولت أثره بالحفظ .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 279 ] ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس ، ودرس المنزل : ذهب أثره وطلل عارف ودارس بمعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية