الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (178) قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي ؛ قرأ الجمهور "يحسبن " بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزجاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا "إنما " ونصبوا "خيرا " وأنكرها ابن مجاهد ، وسيأتي إيضاح ذلك ، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر "إنما " ، وحكى عنه الزمخشري أيضا أنه قرأ بكسر "إنما " الأولى وفتح الثانية مع الغيبة . فهذه خمس قراءات .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الجمهور فتخريجها واضح ، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسندا إلى "الذين " ، و "أن " وما اتصل بها ساد مسد المفعولين عند سيبويه ومسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش حسبما تقدم غير مرة . ويجوز أن يكون مسندا إلى ضمير غائب يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أي : ولا يحسبن النبي عليه السلام ، فعلى هذا يكون "الذين كفروا " مفعولا أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، فتتحد هذه القراءة على هذا الوجه مع قراءة حمزة - رحمه الله - ، وسيأتي تخريجها . و "ما " يجوز أن [ ص: 497 ] تكون موصولة اسمية ، فيكون العائد محذوفا لاستكمال الشروط ، أي : أن الذي نمليه ، وأن تكون مصدرية أي : إملاءنا ، وهي اسم "أن " و "خير " خبرها . قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن تكون كافة ولا زائدة ، إذ لو كانت كذلك لانتصب " خير " بـ " نملي " ، واحتاجت " أن "إلى خبر إذا كانت " ما "زائدة ، أو قدر الفعل يليها ، وكلاهما ممتنع " . انتهى . وهو من الواضحات ، وكتبوا "أنما " في الموضعين متصلة ، وكان من حق الأولى الفصل لأنها موصولة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم حتى إنه نقل عن أبي حاتم أنها لحن . قال النحاس : "وتابعه على ذلك خلق كثير " وهذا لا يلتفت إليه لتواترها . وفي تخريجها ستة أوجه ، أحدها : أن يكون فاعل "تحسبن " ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، و الذين كفروا مفعول أول ، و أنما نملي لهم خير مفعول ثان . ولا بد على هذا التخريج من حذف مضاف : أما من الأول تقديره : "ولا تحسبن شأن الذين كفروا " ، وإما من الثاني تقديره : "أصحاب أن إملاءنا خير لهم " ، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل ؛ لأن "أنما نملي " بتأويل مصدر ، والمصدر معنى من المعاني لا يصدق على الذين كفروا ، والمفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يكون أنما نملي لهم بدل من الذين كفروا وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء وتبعهما جماعة منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش . قال الكسائي والفراء : "وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد ، والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن أنما نملي " . قال الفراء : "ومثله : هل [ ص: 498 ] ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم أي : ما ينظرون إلا أن تأتيهم " انتهى . وقد رد بعضهم قول الكسائي والفراء بأن حذف المفعول الثاني في هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، وهذا الرد ليس بشيء ، لأن الممنوع إنما هو حذف الاقتصار ، وقد تقدم تحقيق ذلك . وقال ابن الباذش : "ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : " ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم ثابتة أو واقعة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : " فإن قلت : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار من فعل الحسبان على مفعول واحد ؟ قلت : صح ذلك من حيث إن التعويل على البدل ، والمبدل منه في حكم المنحى ، ألا تراك تقول : "جعلت متاعك بعضه فوق بعض " مع امتناع سكوتك على "متاع " .

                                                                                                                                                                                                                                      وهل البدل بدل اشتمال - وهو الظاهر- أو بدل كل من كل فيكون على حذف مضاف تقديره : "ولا تحسبن إملاء الذين " فحذف "إملاء " وأبدل منه "أنما نملي " ؟ قولان مشهوران .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : -وهو أغربها - أن يكون "الذين " فاعلا بـ "تحسبن " على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث كقوله : كذبت قوم نوح أي : "ولا تحسبن القوم الذين كفروا " و "الذين " وصف "القوم " كقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا فعلى هذا تتحد هذه القراءة مع قراءة الغيبة ، وتخريجها كتخريجها ، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المسمى : [ ص: 499 ] بـ "اللباب " . وفيه نظر من حيث إن "الذين " جار مجرى جمع المذكر السالم ، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله عند البصريين ، لا يجوز : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون . وأما اعتذاره عن ذلك بأن "الذين " صفة للقوم الجائز تأنيث فعلهم وإنما حذف فلا ينفعه ، لأن الاعتبار إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدر ، لا يجيز أحد من البصريين : "قامت المسلمون " على إرادة "القوم المسلمون " البتة . وقال أبو الحسن الحوفي : "أن وما عملت فيه في موضع نصب على البدل ، و " الذين "المفعول الأول ، والثاني محذوف " ، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن يكون أنما نملي لهم بدلا من الذين كفروا بدل الاشتمال أي : إملاءنا ، و "خير " بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي : هو خير لأنفسهم ، والجملة هي المفعول الثاني . نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن بعضهم ، قال : قلت : ومثل هذه القراءة بيت الحماسة :


                                                                                                                                                                                                                                      1496 - منا الأناة وبعض القوم يحسبنا أنا بطاء وفي إبطائنا سرع



                                                                                                                                                                                                                                      كذا جاءت الرواية بفتح "أنا " بعد ذكر المفعول الأول ، فعلى هذا يجوز أن تقول : "حسبت زيدا أنه قائم " أي : حسبته ذا قيام ، فوجه الفتح أنها وقعت مفعولة ، وهي وما عملت فيه في موضع مفرد وهو المفعول الثاني لحسبت "انتهى . وفيما قاله نظر ؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر " إن "إذا وقعت مفعولا ثانيا والأول اسم عين ، وأنشدوا البيت المذكور على ذلك ، وعللوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر فيلزم الإخبار بالمعنى عن العين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 500 ] الخامس : أن يكون الذين كفروا مفعولا أول ، و إنما نملي لهم ليزدادوا إثما في موضع المفعول الثاني ، و أنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، اعترض به بين مفعولي " وتحسبن " ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، نقل ذلك عن الأخفش . قال أبو حاتم : " سمعت الأخفش يذكر فتح "أن " يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير ، كأنه قال : "ولا تحسبن الذين [كفروا ] إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، أنما نملي لهم خير لأنفسهم " انتهى . وإنما جاز أن تكون "أن " المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام لأن مذهب الأخفش ذلك ، وغيره يمنع ذلك ، فإن تقدم خبرها عليها نحو : "في ظني أنك منطلق " أو أما التفصيلية نحو : "أما أنك منطلق فعندي " جاز ذلك إجماعا ، وقول أبي حاتم : "يذكر فتح أن " يعني بها التي في قوله : أنما نملي لهم خير . ووجه تمسك القدرية به أن الله تعالى لا يجوز أن يملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم ، لأنه يجب عندهم رعاية الأصلح .

                                                                                                                                                                                                                                      [السادس : قال المهدوي : "وقال قوم ] قدم الذين كفروا توكيدا ، ثم حالهم من قوله : أنما نملي لهم ردا عليهم ، والتقدير : ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خير لأنفسهم " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة يحيى بكسر "إنما " مع الغيبة فلا يخلو : إما أن يجعل الفعل مسندا إلى "الذين " أو إلى ضمير غائب ، فإن كان الأول كانت "إنما " وما في حيزها معلقة لـ "يحسبن " وإن لم تكن اللام في خبرها لفظا فهي مقدرة ، فتكون "إنما " بالكسر في موضع نصب ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان مع نية اللام ، [ ص: 501 ] ونظير ذلك تعليق أفعال القلوب عن المفعولين الصريحين لتقدير لام الابتداء في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1497 - كذاك أدبت حتى صار من خلقي     إني رأيت ملاك الشيمة الأدب



                                                                                                                                                                                                                                      فلولا تقدير اللام لوجب نصب "ملاك " و "الأدب " ، وكذلك في الآية ، لولا تقدير اللام لوجب فتح "إنما " ، ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حذف وهو ضمير الأمر والشأن ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه ، والأصل : ولا يحسبنه أي : الأمر ، و "إنما نملي " في موضع المفعول الثاني وهي المفسرة للضمير .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان الثاني كان "الذين " مفعولا أول ، و "إنما نملي " في موضع الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خرجها هو فقال : "على معنى : ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان ، وقوله أنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، معناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة وترك المعاجلة بالعقوبة " انتهى . فعلى هذا يكون "الذين " فاعلا ، و "أنما " المفتوحة سادة مسد المفعولين أو أحدهما على الخلاف ، واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله . قال النحاس : "وقراءة يحيى بن وثاب بكسر إن " حسنة ، كما تقول : "حسبت عمرا أبوه خارج " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 502 ] وأما ما حكاه الزجاج قراءة عن خلق كثير وهو نصب "خيرا " على الظاهر من كلامه فقد ذكر هو تخريجها على أن "أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم "بدل من "الذين " و "خيرا " مفعول ثان . ولا بد من إيراد نصه ليظهر لك ، قال رحمه الله : "من قرأ " ولا تحسبن "بالتاء لم يجز عن البصريين إلا كسر " إن "والمعنى : لا تحسبن الذين كفروا إملاؤنا خير لهم ، ودخلت " إن "مؤكدة ، فإذا فتحت صار المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إملاءنا خيرا لهم قال : " وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من "الذين " المعنى : ولا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم ، وقد قرأ بها خلق كثير ، ومثل هذه القراءة من الشعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1498 - فما كان قيس هلكه هلك واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما



                                                                                                                                                                                                                                      جعل "هلكه " بدلا من "قيس " المعنى : فما كان هلك قيس هلك واحد يعني : "فهلك " الأول بدل من المرفوع ، فبقي "هلك واحد " منصوبا خبرا لـ "كان " ، كذلك أنما نملي لهم : "أن " واسمها - وهو "ما " الموصولة - وصلتها والخبر - وهو "لهم " - في محل نصب بدلا من الذين كفروا ، فبقي "خيرا " منصوبا على أنه مفعول ثان لـ "تحسبن " .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاق بأن هذه القراءة لم يقرأ بها أحد - أعني نصب "خيرا " - قال أبو علي الفارسي : "لا يصح البدل [ ص: 503 ] إلا بنصب " خير "من حيث كان المفعول الثاني لـ " حسبت " ، فكما انتصب " هلك واحد "في البيت لما أبدل الأول من " قيس "بأنه خبر لكان كذلك ينتصب " خيرا لهم "إذا أبدل الإملاء من الذين كفروا بأنه مفعول ثان لتحسبن " قال : "وسألت أحمد بن موسى عنها فزعم أن أحدا لم يقرأ بها " يعني بأحمد هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور . وقال في "الحجة " له : "الذين كفروا في موضع نصب بأنها المفعول الأول ، والمفعول الثاني هو الأول في هذا الباب في المعنى ، فلا يجوز إذا فتح " أن "في قوله : أنما نملي لهم لأن إملاءهم لا يكون إياهم " قال : "فإن قلت : لم لا يجوز الفتح في " أن "وتجعلها بدلا من الذين كفروا كقوله : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وكما كان " أن "من قوله تعالى : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم . قيل : لا يجوز ذلك ، وإلا لزمك أن تنصب " خيرا "على تقدير : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا لأنفسهم ، حيث كان المفعول الثاني لـ " تحسبن " ، وقيل : إنه لم يقرأ به أحد ، فإذا لم ينصب علم أن البدل فيه لا يصح وإذا لم يصح البدل لم يجز إلا كسر " إن "على أن تكون " إن "وخبرها في موضع المفعول الثاني من " تحسبن "انتهى ما رد به عليه ، فلم يبق إلا الترجيح بين نقل هذين الرجلين ، أعني الزجاج وابن مجاهد ، ولا شك أن ابن مجاهد أعنى بالقراءات ، إلا أن الزجاج ثقة ، ويقول : " قرأ بها خلق كثير " ، وهذا يبعد غلطه فيه ، والإثبات مقدم على النفي . وما ذكره أبو علي من قوله : " وإذا لم يجز البدل لم يجز إلا كسر إن "إلى آخره ، هذا أيضا مما لم يقرأ به أحد . قال مكي : " وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر "إنما " فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ولم يقرأ به أحد علمته " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 504 ] وقد نقل أبو البقاء نصب " خيرا "قراءة شاذة قال : " وقد قرئ شاذا بالنصب على أن يكون "لأنفسهم " خبر "أن " ، و "لهم " تبيين أو حال من "خيرا " يعني أنه لما جعل لأنفسهم الخير جعل "لهم " : إما تبيينا تقديره : أعني لهم ، وإما حالا من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصل صفة لها ، والظاهر على هذه القراءة ما قدمته من كون "لهم " هو الخبر ، ويكون "لأنفسهم " في محل نصب صفة لـ "خيرا " كما كان صفة له في قراءة الجمهور ، ونقل أيضا قراءة كسر "إن " وهي قراءة يحيى ، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه يسد مسد المفعولين ولا حاجة إلى ذلك ، بل تخريجها على ما تقدم أولى ، لأن الأصل عدم الحذف .

                                                                                                                                                                                                                                      والإملاء : الإمهال والمد في العمر ، ومنه : "ملاوة الدهر " للمدة الطويلة ، والملوان : الليل والنهار ، وقولهم "ملاك الله بنعمة " أي : منحكها عمرا طويلا . وقيل : الملوان : تكرر الليل والنهار وامتدادهما ، بدليل إضافتهما إليهما في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1499 - نهار وليل دائم ملواهما     على كل حال المرء يختلفان



                                                                                                                                                                                                                                      فلو كانا الليل والنهار لما أضيفا إليهما ، إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه . وقوله : أنما نملي لهم أصل الياء واو ، وإنما قلبت ياء لوقوعها رابعة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إنما نملي لهم ليزدادوا قد تقدم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذه ، فيما نقله عنه الزمخشري ، وتقدم تخريجها ، إلا أن الشيخ [ ص: 505 ] قال : "إنه لم يحكها عنه غير الزمخشري ، بل الذين نقلوا قراءة يحيى إنما نقلوا كسره للأولى فقط " قال : "وإنما الزمخشري لولوعه بمذهبه يروم رد كل شيء إليه " . وهذا تحامل عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يرو .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان ، أحدهما : أنها جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيرا ؟ فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . و "إن " هنا مكفوفة بـ "ما " ، ولذلك كتبت متصلة على الأصل ، ولا يجوز أن تكون موصولة اسمية ولا حرفية ؛ لأن لام كي لا يصح وقوعها خبرا للمبتدأ ولا لنواسخه .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني : أن هذه الجملة تكرير للأولى . قال أبو البقاء : "وقيل " أنما "تكرير للأول ، و " ليزدادوا "هو المفعول الثاني لـ " تحسبن "هذا على قراءة التاء ، والتقدير : لا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا ليزدادوا إثما ، بل ليزدادوا إيمانا ، ويروى أن بعض الصحابة قرأه كذلك " انتهى . قلت : وفي هذا نظر من حيث إنه جعل "ليزدادوا " هو المفعول الثاني ، وقد تقدم أن لام "كي " لا تقع خبرا للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانية ، وقد تقدم أن أحدا لم ينقلها إلا الزمخشري عن يحيى ، والذي يقرأ "تحسبن " بتاء الخطاب لا يفتحها البتة .

                                                                                                                                                                                                                                      واللام في "ليزدادوا " فيها وجهان : أحدهما : أنها لام كي ، والثانية أنها لام الصيرورة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ولهم عذاب في هذه الواو قولان ، أحدهما : أنها للعطف ، والثاني : أنها للحال . وظاهر قول الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن [ ص: 506 ] وثاب فقط ، فإنه قال "فإن قلت : ما معنى هذه القراءة ؟ - يعني على قراءة يحيى التي نقلها هو عنه - قلت : معناه " ولا يحسبن أن إملاءنا لزيادة الإثم والتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين "قال الشيخ : - بعد ما ذكر من إنكاره عليه نقل فتح الثانية عن يحيى كما قدمته لك - " ولما قرر في هذه القراءة أن المعنى على نهي الكافر أن يحسب أنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لزيادة الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال ليزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين آخر الآية " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل "ليزدادوا " : ليزتادوا بالتاء ، لأنه افتعال من الزيادة ولكن تاء الافتعال تقلب دالا بعد ثلاثة أحرف : الزاي والذال والدال نحو : ادكر وادان . والفعل هنا متعد لواحد وكان في الأصل متعديا لاثنين نحو :فزادهم الله مرضا ، ولكنه بالافتعال ينقص أبدا مفعولا ، فإن كان الفعل قبل بنائه على افتعل للمطاوعة متعديا لواحد صار قاصرا بعد المطاوعة نحو "مددت الحبل فامتد " ، وإن كان متعديا لاثنين صار بعد الافتعال متعديا لواحد كهذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وختمت كل واحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما ختمت به الأخرى لمعنى مناسب ، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكفر ، والمسارعة في الشيء والمبادرة إلى تحصيله تقتضي جلالته وعظمته ، فجعل جزاؤهم "عذاب عظيم " مقابلة لهم ، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه . وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكفر بالإيمان ، والعادة سرور المشتري واغتباطه بما اشتراه ، فإذا خسر تألم ، فختمت هذه الآية بألم العذاب [ ص: 507 ] كما يجد المشتري المغبون ألم خسارته . وأما الثالثة فتضمنت الإملاء وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا ، وذلك يقتضي التعزز والتكبر والجبروت فختمت هذه الآية بما يقتضي إهانتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية