الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (28) قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون : العامة على قراءته نهيا ، وقرأ الضبي : "لا يتخذ " برفع الدال نفيا بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو : لا تضار والدة و ولا يضار كاتب فيمن رفع الراء . قال أبو البقاء وغيره : "وأجاز الكسائي رفع الراء على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي " وهذا موافق لما قاله الفراء ، فإنه قال : "ولو رفع على الخبر كقراءة من قرأ : " لا تضار والدة "جاز " . قال أبو إسحاق : "ويكون المعنى على الرفع أنه من كان مؤمنا فلا ينبغي أن يتخذ الكافر وليا " كأنهما لم يطلعا على قراءة الضبي ، أو لم تثبت عندهما . و "يتخذ " يجوز أن تكون المتعدية لواحد فيكون "أولياء " حالا ، وأن تكون المتعدية لاثنين ، و "أولياء " هو الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 107 ] قوله : من دون المؤمنين فيه وجهان ، أظهرهما : أن "من " لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ . قال علي بن عيسى : "أي : لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين " وقد تقدم تحقيق هذا عند قوله تعالى : وادعوا شهداءكم من دون الله في البقرة . والثاني أجازه أبو البقاء أن يكون في موضع نصب صفة لأولياء ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف . قوله : ومن يفعل ذلك أدغم الكسائي في رواية الليث عنه اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخر تقدم التنبيه عليها وعلى علتها في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من الله الظاهر أنه في محل نصب على الحال من "شيء " لأنه لو تأخر لكان صفة له . و " في شيء " هو خبر ليس ، لأن به تستقل فائدة الإسناد ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضاف أي : فليس من ولاية الله ، وقيل : من دين الله . ونظر بعضهم الآية الكريمة ببيت النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      1223 - إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني



                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : "والتنظير ليس بجيد ، لأن " منك "و " مني "خبر " ليس " ، تستقل به الفائدة ، وفي الآية : الخبر قوله " في شيء "فليس البيت كالآية " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نحا ابن عطية هذا المنحى الذي ذكرته عن بعضهم فقال : [ ص: 108 ] " فليس من الله في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من غشنا فليس منا "وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والثواب ونحو هذا ، وقوله : " في شيء "هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : " ليس من الله " . قال الشيخ : "وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله يقتضي ألا يكون " من الله "خبرا لليس ، إذ لا يستقل ، وقوله : " في شيء "هو في موضع نصب على الحال يقتضي ألا يكون خبرا ، فتبقى " ليس "على قوله ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله عليه السلام : " من غشنا فليس منا "ليس بجيد ؛ لما بينا من الفرق بين بيت النابغة وبين الآية الكريمة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قد يجاب عن قوله : "إن " من الله "لا يكون خبرا لعدم الاستقلال " بأن في الكلام حذف مضاف ، تقديره : فليس من أولياء الله ، أو ليس ، لأن اتخاذ الكفار أولياء ينافي ولاية الله تعالى ، وكذا قول ابن عطية : فليس من التقرب أي : من أهل التقرب ، وحينئذ يكون التنظير بين الآية والحديث وبيت النابغة مستقيما بالنسبة إلى ما ذكر ، ونظير تقدير المضاف هنا قوله تعالى : فمن تبعني فإنه مني أي : ما أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني ، وقول العرب : "أنت مني [ ص: 109 ] فرسخين " أي : من أشياعي ، ما سرنا فرسخين . ويجوز أن يكون "من الله " هو خبر ليس ، و "في شيء " يكون حالا من الضمير في "ليس " كما ذهب إليه ابن عطية تصريحا ، وغيره إيماء ، وقد تقدم اعتراض الشيخ عليهما وجوابه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا أن تتقوا هذا استثناء مفرغ من المفعول [من أجله ، والعامل فيه : لا يتخذ أي ] : لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية ظاهرا ، أي يكون مواليه في الظاهر ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : ومن يفعل ذلك وجوابه معترض بين العلة ومعلولها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : إلا أن تتقوا التفات من غيبة إلى خطاب ، ولو جرى على سنن الكلام الأول لجاء بالكلام غيبة ، وأبدوا للالتفات هنا معنى حسنا : وذلك أن موالاة الكفار لما كانت مستقبحة لم يواجه الله عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسند الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة في الظاهر والمحاسنة جائزة لعذر وهو اتقاء شرهم حسن الإقبال إليهم وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تقاة في نصبها ثلاثة أوجه وذلك مبني على تفسير "تقاة " ما هي ؟ أحدها : أنها منصوبة على المصدر والتقدير : تتقوا منهم اتقاء ، فتقاة واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاء ، نحو : تقتدروا اقتدارا ، ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائد كقوله : أنبتكم من الأرض نباتا والأصل إنبات ومثله :


                                                                                                                                                                                                                                      1224 - ... ... ... ...     وبعد عطائك المئة الرتاعا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 110 ] أي : إعطائك ، ومن ذلك أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1225 - ... ... ... ...     وليس بأن تتبعه اتباعا



                                                                                                                                                                                                                                      قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1226 - ولاح بجانب الجبلين منه     ركام يحفر الأرض احتفارا



                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا عكس الآية ، إذا جاء بالمصدر مزادا فيه ، والفعل الناصب له مجرد من تلك الزوائد . ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا ، والأصل تبتلا ، ومثله :


                                                                                                                                                                                                                                      1227 - وقد تطويت انطواء الحضب      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      والأصل : تطويا ، وأصل تقاة : "وقية " مصدر على فعل من الوقاية ، وقد تقدم تفسير هذه المادة في أول هذا الموضوع ، ثم أبدلت الواو تاء ، ومثلها تخمة وتكاة وتجاه ، وتحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، فصار اللفظ "تقاة " ، كما ترى ، ووزنها فعلة ، ومجيء المصدر على فعل وفعلة قليل نحو : التخمة والتهمة والتؤدة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير الصدر ، والكثير مجيء المصادر جارية على أفعالها قيل : وحسن مجيء هذا [ ص: 111 ] المصدر ثلاثيا كون "فعلة " قد حذفت زوائده في كثير من كلامهم نحو : تقى يتقي ومنه :


                                                                                                                                                                                                                                      1228 - ... ... ... ...     تق الله فينا والكتاب الذي تتلو



                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمت تحقيق ذلك في أول البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك أن يكون "تتقوا " بمعنى تخافوا ، ويكون "تقاة " مصدرا واقعا موقع المفعول به ، وهو ظاهر قول الزمخشري فإنه قال : "إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه ، وقرئ " تقية " ، وقيل للمتقى : تقاة وتقية كقولهم " ضرب الأمير "لمضروبه " . انتهى فصار تقدير الكلام : إلا أن تخافوا منهم أمرا متقى .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنها منصوبة على الحال وصاحب الحال فاعل "تتقوا " وعلى هذا تكون حالا مؤكدة ، لأن معناه مفهوم من عاملها كقوله : ويوم أبعث حيا ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، وهو على هذا جمع "فاعل " وإن لم يلفظ بفاعل من هذه المادة فيكون فاعلا وفعلة نحو : رام ورماة وغاز وغزاة ، لأن فعله يطرد جمعا لفاعل الوصف المعتل اللام ، وقيل : بل فعلة جمع لفعيل ، أجاز ذلك كله أبو علي الفارسي . قلت : جمع فعيل على فعلة لا يجوز ، فإن فعيلا الوصف المعتل اللام يجمع على أفعلاء نحو : غني وأغنياء ، وتقي وأتقياء ، وصفي وأصفياء ، فإن قيل : قد جاء فعيل الوصف مجموعا على فعلة قالوا : كمي وكماة ، فالجواب : أنه من الندور بحيث لا يقاس عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 112 ] وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل وعاصم في رواية المفضل عنه : "تتقوا منهم تقية " بوزن "مطية " وهي مصدر أيضا بمعنى "تقاة " ، يقال : اتقى يتقي اتقاء وتقوى وتقاة وتقية وتقى ، فيجيء مصدر افتعل من هذه المادة على الافتعال وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان ، ويقال أيضا : تقيت أتقي ثلاثيا تقية وتقوى وتقاة وتقى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمال الأخوان "تقاة " هنا ، لأن ألفها منقلبة عن ياء كما تقدم تقريره ، ولم يؤثر حرف الاستعلاء في منع الإمالة لأن السبب غير ظاهر ، ألا ترى أن سبب الإمالة الياء المقدرة بخلاف "غالب " و "طالب " و "قادم " فإن حرف الاستعلاء هنا مؤثر لكون سبب الإمالة ظاهرا وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يوثر مع السبب الظاهر ولم يؤثر مع المقدر وكان العكس أولى ؟ والجواب أن الكسرة سبب منفصل عن الحرف الممال ليس موجودا فيه بخلاف الألف المنقلبة عن باء فإنها نفسها مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاومها حرف الاستعلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمال الكسائي وحده حق تقاته ، فخرج حمزة عن أصله ، وكان الفرق أن "تقاة " هذه رسمت بالياء فلذلك وافق حمزة الكسائي عليه ، ولذلك قرأ بعضهم "تقية " بوزن مطية كما تقدم لظاهر الرسم ، بخلاف "حق تقاته " ، وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن سيبويه حكى عن قوم أنهم يميلون شيئا [ ص: 113 ] لا يجوز إمالته نحو : "رأيت عرقى " بالإمالة ، وليس هذا من ذاك لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في "عرقى " كسرة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : منهم متعلق بـ " تتقوا " ، أو بمحذوف على أنه حال من "تقاة " لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفة لها ، فلما قدم نصب حالا . هذا إذا لم تجعل "تقاة " حالا ، فأما إذا جعلناها حالا تعين أن يتعلق "منهم " بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالا من "تقاة " لفساد المعنى لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : نفسه مفعول ثان لحذر ؛ لأنه في الأصل متعد بنفسه لواحد فازداد بالتضعيف آخر ، وقدر بعضهم حذف مضاف أي : عقاب نفسه . وصرح بعضهم بعدم الاحتياج إليه ، كذا نقله أبو البقاء عن بعضهم ، وليس بشيء ، إذ لا بد من تقدير هذا المضاف لصحة المعنى ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه في نحو قولك : "حذرتك نفس زيد " أنه لا بد من شيء تحذر منه كالعقاب والسطوة ، لأن الذوات لا يتصور الحذر منها نفسها ، إنما يتصور من أفعالها وما يصدر عنها . وعبر هنا بالنفس عن الذات جريا على عادة العرب ، كما قال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      1229 - يوما بأجود نائلا منه إذا     نفس الجبان تجهمت سؤالها



                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : الهاء في "نفسه " تعود على المصدر المفهوم من قوله : لا يتخذ أي : ويحذركم الله نفس الاتخاذ ، والنفس عبارة عن وجود الشيء وذاته .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية