الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (37) قوله تعالى : فتقبلها : الجمهور على "تقبلها " فعلا ماضيا على تفعل بتشديد العين ، و "ربها " فاعل به . وتفعل يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون بمعنى المجرد أي : فقبلها ، بمعنى رضيها مكان الذكر المنذور ، ولم يقبل أنثى منذورة مثلمريم ، كذا جاء في التفسير ، وتفعل يأتي بمعنى فعل مجردا نحو : تعجب وعجب من كذا ، وتبرأ وبرئ منه . والثاني : أن تفعل بمعنى استفعل ، أي : فاستقبلها ربها يقال : استقبلت الشيء أي : أخذته أول مرة ، والمعنى : أن الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتها ومنه قوله - هو القطامي - :


                                                                                                                                                                                                                                      1244 - وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 140 ] ومنه المثل : "خذ الأمر بقوابله " . وتفعل بمعنى استفعل كثير نحو : تعظم واستعظم ، وتكبر واستكبر ، وتقصيت الشيء ، واستقصيته وتعجلته واستعجلته .

                                                                                                                                                                                                                                      والباء في قوله : بقبول فيها وجهان ، أحدهما . أنها زائدة أي : قبولا ، وعلى هذا فينتصب ، "قبولا " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذ لو جاء على تقبل لقيل : تقبلا نحو : تكبر تكبرا . وقبول من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الفاء ، وقد تقدم ذكرها أول البقرة ، يقال : قبلت الشيء قبولا . وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف من "قبول " ، وهو القياس كالدخول والخروج ، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب : قبلته قبولا وقبولا فتح القاف وضمها سماعا عن العرب ، و "على وجهه قبول " لا غير ، يعني لم يقل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      1245 - ... ... ... ...     والوجه عليه القبول



                                                                                                                                                                                                                                      بضم القاف كذا حكاه بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : "إن " قبولا هذا ليس منصوبا بهذا الفعل حتى يكون مصدرا على غير الصدر ، بل هو منصوب بفعل موافق له أي : مجرد قال : "والتقدير : فتقبلها يتقبل حسن وقبلها قبولا حسنا أي : رضيها وفيه بعد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 141 ] والوجه الثاني : أن الباء ليست زائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المراد بالقبول هنا اسما لما يقبل به الشيء نحو : " اللدود "لما يلد به ، والسعوط : لما يسعط به ، والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وأنبتها نباتا نبات أيضا مصدر على غير الصدر ؛ إذ القياس : إنبات . وقيل : بل هو منصوب بمضمر موافق له أيضا تقديره : فنبتت نباتا حسنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وكفلها قرأ الكوفيون : " وكفلها "بتشديد العين ، " زكريا "بالقصر ، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ مجاهد : " فتقبلها "بسكون اللام ، " ربها "منصوبا ، و " أنبتها "بكسر الباء وسكون التاء ، و " كفلها "بكسر الفاء وسكون اللام ، وقرأ أبي : " وأكفلها "كـ " أكرمها "فعلا ماضيا . وقرأ عبد الله المزني "وكفلها " بكسر الفاء والتخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الكوفيين فإنهم عدوا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما [ ص: 142 ] " زكريا " فمن قصره كالأخوين وحفص عنده مقدر النصب ، ومن مده كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة ، وهكذا قرأته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة بقية السبعة فكفل مخفف عندهم متعد لواحد وهو ضمير مريم ، وفاعله "زكريا " ، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفلها إياه كفلها ، وهو في قراءتهم ممدود مرفوع بالفاعلية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة "أكفلها " فإنه عداه بالهمزة كما عداه غيره بالتضعيف نحو : خرجته وأخرجته ، وكرمته وأكرمته ، وهذه كقراءة الكوفيين في المعنى والإعراب ، فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو ضمير مريم والثاني هو "زكريا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة : "وكفلها " بكسر الفاء فإنها لغة في كفل ، يقال : كفل يكفل ، كقتل يقتل ، وهي الفاشية ، وكفل يكفل كعلم يعلم ، وعليها هذه القراءة ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون "زكريا " فاعلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة مجاهد فإنها كلها على لفظ الدعاء من أم مريم لله تعالى بأن يفعل لها ما سألته . و "ربها " منصوب على النداء أي : فتقبلها يا ربها وأنبتها وكفلها يا ربها . و "زكريا " في هذه القراءة مفعول ثان أيضا كقراءة الكوفيين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حفص والأخوان : "زكريا " بالقصر حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالمد ، والمد والقصر في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : منع من الصرف للعلمية والعجمة كنظائره ، وإنما قالوا : منع من الصرف لوجود ألف التأنيث فيه . إما الممدودة كحمراء أو المقصورة كحبلى ، وكأن الذي اضطرهم إلى [ ص: 143 ] ذلك أنهم رأوه ممنوعا معرفة ونكرة ، قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعجمة لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرة ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معنا هنا ما يصلح مانعا من صرفه إلا ألف التأنيث ، يعنون التشبيه بألف التأنيث ، وإلا فهذا اسم أعجمي لا يعرف له اشتقاق حتى يدعى فيه أن الألف فيه للتأنيث . على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صرفه نكرة ، وكأنه لحظ فيه ما قدمته من العجمة والعلمية لكنهم غلطوه وخطؤوه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفارسي فأشبع فيه القول : "لا يخلو من أن يكون الهمزة فيه : للتأنيث أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبة ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرف أصلي أو من حرف الإلحاق ، ولا يجوز أن يكون من حرف أصلي لأن الياء والواو لا يكونان أصلا فيما كان على أربعة أحرف ، ولا أن يكون من حرف الإلحاق لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا ملحقا به وإذا ثبت ذلك ثبت أنها للتأنيث ، وكذلك القول في الألف المقصورة " . وهذا الذي قاله أبو علي صحيح لو كان فيما يعرف له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يجرون الأسماء الأعجمية مجرى العربية بمعنى أن هذا لو ورد في لسان العرب كيف يكون حكمه ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه بعد ذلك لغتان أخريان ، إحداهما : زكري بياء مشددة في آخره فقط دون ألف ، وهو في هذه اللغة منصرف . ووجه أبو علي ذلك فقال : "القول فيه أنه حذف منه الياءان اللتان كانتا فيه ممدودا ومقصورا وما بعدهما وألحق ياءي النسب " قال : يدل على ذلك صرف الاسم ، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرف للعجمة والتعريف " ، وهذه اللغة التي [ ص: 144 ] ذكرتها لغة أهل نجد ومن والاهم . والثانية : " زكر "بزنة عمرو ، حكاها الأخفش " .

                                                                                                                                                                                                                                      والكفالة : الضمان في الأصل ، ثم يستعار للضم والأخذ ، يقال منه : كفل يكفل ، وكفل يكفل - كعلم يعلم - كفالة وكفلا فهو كافل وكفيل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : المحراب فيه وجهان مشهوران ، أحدهما وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر إخوانه بعد "دخل " خاصة ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة "في " نحو : "صليت في المحراب " ولا تقول : المحراب ، ونمت في السوق ، ولا تقول : السوق ، إلا مع "دخل " خاصة ، نحو : دخلت السوق والبيت ، وإلا ألفاظا أخر ذكرتها في كتب النحو . والثاني : مذهب الأخفش ، هو نصب ما بعد "دخل " على المفعول به لا على الظرف ، فقولك : "دخلت البيت " كقولك : "هدمت البيت " في نصب كل منهما على المفعول به . وهو قول مرجوح بدليل أن "دخل " لو سلط على غير الظرف المختص وجب وصوله بوساطة "في " تقول : "دخلت في الأمر " ولا تقول : دخلت الأمر ، فدل ذلك على عدم تعديه للمفعول به بنفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمحراب : قال أبو عبيدة : "هو أشرف المجالس ومقدمها ، وهو كذلك من المسجد " . وقال أبو عمرو بن العلاء : "هو القصر لعلوه وشرفه " . وقال الأصمعي : "هو الغرفة " وأنشد لامرئ القيس :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 145 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1246 - وماذا عليه أن ذكرت أوانسا     كغزلان رمل في محاريب أقيال



                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : معناه في غرف أقيال . وأنشد غيره لعمر بن أبي ربيعة :


                                                                                                                                                                                                                                      1247 - ربة محراب إذا جئتها     لم أدن حتى أرتقي سلما



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود وهو الأليق بالآية . وأما ما ذكرته عمن تقدم فإنما يعنون به المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف [في ] أنه المحراب المتعارف ، قيل : واشتقاقه من الحرب لتحارب الناس عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمال ابن ذكوان عن ابن عامر "المحراب " في هذه السورة موضعين بلا خلاف ، لكونه قوي فيه سبب الإمالة ، وذلك أن الألف تقدمها كسرة وتأخرت عنها كسرة أخرى فقوي داعي الإمالة ، وهذا بخلاف "المحراب " غير المجرور فإنه نقل عن ابن ذكوان فيه الوجهان : الإمالة وعدمها نحو قوله : إذ تسوروا المحراب ، فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التفخيم أنه الأصل ، وقد تقدم لك الفرق بين كونه مجرورا فلم يخبر عنه فيه خلاف وبين كونه غير مجرور فجرى فيه الخلاف ، وكذلك جرى عنه الخلاف أيضا في "عمران " لما ذكرت لك من تقدم الكسر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وجد عندها رزقا هذه "وجد " بمعنى أصاب ولقي وصادف فتتعدى لواحد وهو "رزقا " ، و "عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان . وأجاز [ ص: 146 ] أبو البقاء أن يكون حالا من "رزقا " لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، و "وجد " هو الناصب لكلما ، لأنها ظرفية ، وقد تقدم تحقيقه . وأبو البقاء سماه جوابها ؛ لأنها عنده تشبه الشرط كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " قال يا مريم " فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنف ، قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن يكون بدلا من " وجد "لأنه ليس بمعناه " . والثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : "كما حذفت في جواب الشرط كقوله : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ، وكذلك قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1248 - من يفعل الحسنات الله يشكرها      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الموضع يشبه جواب الشرط ؛ لأن " كلما "تشبه الشرط في اقتضائها الجواب " انتهى . قلت : وهذا الذي قاله فيه نظر من حيث إنه تخيل أن قوله تعالى وإن أطعتموهم أن جواب الشرط هو نفس " إنكم لمشركون " حذفت منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و " إنكم لمشركون " جواب قسم مقدر قبل الشرط ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، فليس هذا مما حذفت منه فاء الجزاء البتة ، وكيف يدعي ذلك ويسويه بالبيت المذكور وهو لا يجوز إلا في ضرورة ، ثم الذي يظهر أن الجملة من قوله : "وجد " في محل نصب على الحال من فاعل "دخل " ، ويكون جواب "كلما " هو نفس [ ص: 147 ] " قال " والتقدير : كلما دخل عليها زكريا واجدا عندها الرزق قال ، وهذا بين جدا . ونكر "رزقا " تعظيما له أو ليدل به على نوع ما منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أنى لك هذا أنى خبر مقدم ، و "هذا " مبتدأ مؤخر ، ومعنى "أنى " هنا : من أين ، كذا فسرها أبو عبيدة ، وقيل : ويجوز أن يكون سؤالا عن الكيفية أي : كيف تهيأ لك هذا ، قال الكميت :


                                                                                                                                                                                                                                      1249 - أنى ومن أين آبك الطرب     من حيث لا صبوة ولا ريب



                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أبو البقاء في "أنى " أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في "لك " ، و "لك " رافع لـ "هذا " يعني بالفاعلية ولا حاجة إلى ذلك . وقد تقدم الكلام على "أنى " في البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله يرزق من يشاء تقدم نظيره ، ويحتمل أن يكون مستأنفا [من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلام مريم فيكون منصوبا ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية