الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (12) قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة : هذه الآية مما ينبغي أن يطول فيها القول لإشكالها واضطراب أقوال الناس فيها . ولا بد قبل التعرض للإعراب من ذكر معنى الكلالة واشتقاقها واختلاف الناس فيها ، ثم نعود بعد ذلك لإعرابها ، لأنه متوقف على ما ذكرنا فنقول - وبالله العون - : اختلف في معنى الكلالة فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنه الميت الذي لا ولد له ولا والد ، وقيل : الذي لا والد له فقط . وقيل : الذي لا ولد له فقط ، وقيل : هو من لا يرثه أب ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلها فالكلالة واقعة على الميت . وقيل : الكلالة : الورثة ما عدا الأبوين والولد ، قاله قطرب ، وسموا بذلك لأن الميت بذهاب طرفيه تكلله الورثة أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، [ ص: 607 ] ويؤيد هذا القول بأن الآية نزلت في جابر ، ولم يكن له يوم أنزلت أب ولا ابن . وقيل : الكلالة : المال الموروث . وقيل : الكلالة : القرابة ، وقيل : هي الوراثة . فقد تلخص مما تقدم أنها : إما الميت الموروث أو الوارث أو المال الموروث أو الإرث أو القرابة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما اشتقاقها فقيل : هي مشتقة من تكلله الشيء أي : أحاط به ، وذلك أنه إذا لم يترك ولدا ولا والدا فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي ماله الموروث لمن يتكلله نسبه أي : يحيط به كالإكليل ، ومنه "الروضة المكللة " أي : بالزهر ، وعليه قول الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                      1554 - ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : اشتقاقها من الكلال وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث للوارث من بعد إعياء . وقال الزمخشري : "والكلالة في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء . قال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      1555 - فآليت لا أرثي لها من كلالة     ولا من وحى حتى تلاقي محمدا



                                                                                                                                                                                                                                      فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالة ضعيفة " . وأجاز فيها أيضا أن تكون صفة على وزن فعالة قال : "كالهجاجة والفقاقة للأحمق " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 608 ] إذا تقرر هذا فلنعد إلى الإعراب فنقول والعون بالله : يجوز في "كان " وجهان أحدهما : أن تكون ناقصة ، و "رجل " اسمها ، وفي الخبر احتمالان ، أحدهما : أنه "كلالة " إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل إنها الوارث أو غير ذلك فتقدر حذف مضاف أي : ذا كلالة ، و "يورث " حينئذ في محل رفع صفة لـ "رجل " وهو فعل مبني للمفعول ، ويتعدى في الأصل لاثنين أقيم الأول مقام الفاعل وهو ضمير الرجل ، والثاني محذوف تقديره : يورث هو ماله .

                                                                                                                                                                                                                                      وهل هذا الفعل من ورث الثلاثي أو أورث الرباعي ؟ فيه خلاف ، إلا أن الزمخشري لما جعله من الثلاثي جعله يتعدى إلى الأول من المفعولين بـ "من " فإنه قال : "ويورث من ورث ، أي : يورث منه " يعني أنه في الأصل يتعدى بـ "من " ، وقد تحذف ، تقول : "ورثت زيدا ماله " أي : من زيد ، ولما جعله من "أورث " جعل الرجل وارثا لا موروثا فإنه قال : "فإن قلت : فإن جعلت " يورث "على البناء للمفعول من " أورث "فما وجهه ؟ قلت : الرجل حينئذ الوارث لا الموروث " وقال الشيخ : "إنه من " أورث "الرباعي المبني للمفعول " ولم يقيده بالمعنى الذي قيده الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      الاحتمال الثاني : أن يكون الخبر الجملة من "يورث " ، وفي نصب "كلالة " حينئذ أربعة أوجه ، أحدها : أنها حال من الضمير في "يورث " إن أريد بها الميت أو الوارث ، إلا أنه يحتاج في جعلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي : يورث ذا كلالة ؛ لأن الكلالة حينئذ ليست نفس الضمير المستكن في "يورث " . قال أبو البقاء على جعلها بمعنى الميت : "ولو قرئ " كلالة "بالرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير في " يورث "لجاز ، غير أني لم أعرف [ ص: 609 ] أحدا قرأ به فلا يقرأن إلا بما نقل " يعني بكونها صفة أنها صفة لـ "رجل " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنها مفعول من أجله إن قيل : إنها بمعنى القرابة أي : يورث لأجل الكلالة . الثالث : أنه مفعول ثان لـ "يورث " إن قيل إنها بمعنى المال الموروث . الرابع : أنها نعت لمصدر محذوف إن قيل : إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثة كلالة ، وقدر مكي في هذا الوجه حذف مضاف قال : "تقديره ذات كلالة " . وأجاز بعضهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكون حالا .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني من وجهي كان : أن تكون تامة فيكتفى بالمرفوع أي : وإن وجد رجل ، و "يورث " في محل رفع صفة لـ "رجل " و "كلالة " منصوبة على ما تقدم من الحال أو المفعول من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدر محذوف على حسب ما قرر من معانيها . ويخص هذا وجه آخر ذكره مكي : وهو أن تكون "كلالة " منصوبة على التفسير ، قال مكي : "كان أي : وقع ، و " يورث "نعت للرجل ، و " رجل "رفع بـ " كان " ، و " كلالة نصب على التفسير ، وقيل : هو نصب على الحال ، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين "وفي جعلها تفسيرا - أي تمييزا - نظر لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور : " يورث "مبنيا للمفعول وقد تقدم توجيهه . وقرأ الحسن : "يورث " مبنيا للفاعل ، ونقل عنه أيضا وعن أبي رجاء كذلك ، إلا أنهما شددا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح مما تقدم : وذلك أنه إن أريد بالكلالة الميت فيكون المفعولان محذوفين ، و "كلالة " نصب على الحال أي : وإن كان رجل يورث وارثه - أو أهله - ماله في حال كونه كلالة ، وإن أريد بها [ ص: 610 ] القرابة فتكون منصوبة على المفعول من أجله ، والمفعولان أيضا محذوفان على ما تقدم تقريره ، وإن أريد بها المال كانت مفعولا ثانيا ، والأول محذوف أي : يورث أهله ماله ، وأن أريد بها الوارث فبالعكس أي يورث ماله أهله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أو امرأة عطف على "رجل " ، وحذف منها ما أثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التقدير : أو امرأة تورث كلالة ، وإن كان لا يلزم من تقييد المعطوف عليه تقييد المعطوف ولا العكس ، إلا أنه هو الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وله أخ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، والواو الداخلة عليها واو الحال ، وصاحب الحال : إما "رجل " إن كان "يورث " صفة له ، وإما الضمير المستتر في "يورث " . ووحد الضمير في قوله : "وله " ؛ لأن العطف بـ "أو " وما ورد على خلاف ذلك أول عند الجمهور ، كقوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما وإنما أتى به مذكرا لأنه يجوز إذا تقدم متعاطفان بـ "أو " مذكر ومؤنث كنت بالخيار : بين أن تراعي المتقدم أو المتأخر فتقول : "زيد أو هند قام " ، وإن شئت : "قامت " ، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه ، أحدها : أنه يعود على الرجل وهو مذكر مبدوء به . الثاني : أنه يعود على أحدهما ، ولفظ "أحد " مفرد مذكر . والثالث : أنه يعود على الميت أو الموروث لتقدم ما يدل عليه " .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في قوله : فلكل واحد منهما فيه وجهان ، أحدهما : أنه يعود على الأخ والأخت . والثاني : أنه يعود على الرجل وعلى أخيه أو أخته ، إذا أريد بالرجل في قوله : وإن كان رجل يورث أنه وارث لا موروث ، كما تقدمت [ ص: 611 ] حكايته عن الزمخشري . قال الزمخشري - بعد ما حكيناه عنه - : فإن قلت : فالضمير في قوله : فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ ؟ قلت : على الرجل وعلى أخيه أو أخته ، وعلى الأول : إليهما ، فإن قلت : إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر للأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه ؟ قلت : نعم لأنك إذا قلت : السدس له ، أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سويت بين الذكر والأنثى " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي : "أخ أو أخت من الأم " . وقرأ سعد بن أبي وقاص : "من أم " بغير أداة تعريف . وأجمع الناس على أن المراد بالأخ والأخت من الأم كقراءتهما ، ولأن ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون : للأخت النصف ، وللأختين الثلثان ، وللإخوة الذكور والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فإن كانوا الواو ضمير الإخوة من الأم المدلول عليهم بقوله : أخ أو أخت ، والمراد الذكور والإناث ، وأتى بضمير الذكور في قوله : "كانوا " وقوله "فهم " تغليبا للمذكر على المؤنث ، و "ذلك " إشارة إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإن كان من يرث زائدا على الواحد ؛ لأنه لا يصح أن يقال : "هذا أكثر من واحد " إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلا فالواحد لا كثرة فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : من بعد وصية يوصى قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : غير مضار "غير " نصب على الحال من الفاعل في "يوصى " [ ص: 612 ] وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : وإن كان رجل ، هذا إن أريد بالرجل الموروث ، وإن أريد به الوارث كما تقدم فيعود على الميت الموروث المدلول عليه بالوارث من طريق الالتزام كما دل عليه في قوله : فلهن ثلثا ما ترك أي : تركه الموروث ، فصار التقدير : يوصى بها الموروث ، هكذا أعربه الناس فجعلوه حالا : الزمخشري وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الشيخ رد ذلك بأنه يؤدي إلى الفصل بين هذه الحال وعاملها بأجنبي منهما ، وذلك أن العامل فيها "يوصى " كما تقرر ، وقوله : أو دين أجنبي لأنه معطوف على "وصية " الموصوفة بالعامل في الحال ، قال : "ولو كان على ما قالوه من الإعراب لكان التركيب : " من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين " . وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني بناء الفعل للفاعل أو المفعول ، وتزيد عليه قراءة البناء للمفعول وجها آخر ، وهو أن صاحب الحال غير مذكور ، لأنه فاعل في الأصل حذف وأقيم المفعول مقامه ، ألا ترى أنك لو قلت : " ترسل الرياح مبشرا بها "بكسر الشين ، يعني : " يرسل الله الرياح مبشرا بها "فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مقامه ، وجئت بالحال من الفاعل لم يجز فكذلك هذا " . ثم خرجه على أحد وجهين : إما بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عاما لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين وتقديره : يلزم ذلك ماله ، أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب . وإما بفعل مبني للفاعل لدلالة المبني للمفعول عليه أي : يوصي غير مضار ، فيصير نظير قوله : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال على قراءة من فتح الباء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 613 ] قوله : وصية في نصبها أربعة أوجه ؛ أحدها : أنها مصدر مؤكد ، أي يوصيكم الله بذلك وصية الثاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها يوصيكم . قاله ابن عطية ، والثالث : أنها منصوبة على الخروج : إما من قوله : فلكل واحد منهما السدس أو من قوله : فهم شركاء في الثلث وهذه عبارة تشبه عبارة الكوفيين . والرابع : أنها منصوبة باسم الفاعل وهو "مضار " ، والمضارة لا تقع بالوصية بل بالورثة ، لكنه لما وصى الله تعالى بالورثة جعل المضارة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصية مبالغة في ذلك ، ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن : "غير مضار وصية " بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وصار نظير قولهم : "يا سارق الليلة " التقدير : يا سارقا في الليلة ، ولكنه أضاف اسم الفاعل إلى ظرفه مجازا واتساعا ، فكذلك هذا ، أصله : غير مضار في وصية من الله ، فاتسع في هذا إلى أن عدي بنفسه من غير واسطة ، لما ذكرت لك من قصد المبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا أحسن تخريجا من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين ، أحدهما : أنه على حذف "أهل " أو ذي أي : غير مضار أهل وصية أو ذي وصية . والثاني : على حذف وقت أي : وقت وصية قال : "وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ، ويقرب من ذلك قولهم : " هو فارس حرب "أي : فارس في الحرب ، وتقول : " هو فارس زمانه "أي : في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضار في وقت الوصية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومفعول " مضار "محذوف إذا لم تجعل " وصية "مفعولة أي : غير مضار ورثته بوصية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 614 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية