وقوله : وقد بلغني الكبر جملة حالية ، وفي موضع آخر وقد بلغت من الكبر لأن ما بلغك فقد بلغته . وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان . وقيل : هو من المقلوب كقوله :
1264 - مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوآتهم هجر
ولا حاجة إليه .
وقدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقيل : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا التركيب لأنه قدم وهن عظمه واشتعال شيبه وخيفة مواليه من ورائه ، وقال : وكانت امرأتي عاقرا فلما أعاد ذكرهما في استفهام آخر ذكر الكبر ليوافق "عتيا " رؤوس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة ، والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا زمانيا ، فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير .
[ ص: 160 ] والغلام : الفتي السن من الناس وهو الذي شاربه ، وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ، أما الطفل فللتفاؤل بما يؤول إليه ، وأما الكهل فباعتبار ما كان عليه . قالت ليلى الأخيلية :
1265 - شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمه سمي "جنينا " . قال تعالى : وإذ أنتم أجنة ، سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا ولد سمي "صبيا " فإذا فطم سمي "غلاما " إلى سبع سنين ، ثم سمي يافعا إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يطلق عليه "حزور " إلى خمس عشرة ، ثم يصير "قمدا " إلى خمس وعشرين سنة ، ثم ، "عنطنطا " إلى ثلاثين قال :
1266 - وبالجعد حتى صار جعدا عنطنطا إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه
ثم "حملا " إلى أربعين ثم "كهلا " إلى خمسين ، ثم "شيخا " إلى ثمانين ثم "هم " بعد ذلك .
واشتقاق الغلام من الغلمة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسببا عنه أخذ منه لفظه ، ويقال : "اغتلم الفحل " أي : اشتدت شهوته إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر أي : هاج وتلاطمت أمواجه مستعار منه ، وقياسه في القلة أغلمة ، وفي الكثرة : غلمان ، وقد جمع على غلمة شذوذا ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أم اسم جمع ؟ قال : "يقال غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية " قال : "والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل [ ص: 161 ] معروف على هذا المثال ، فيقولون : عبد بين العبودة والعبودية والعبادية " يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل . الفراء
والكبر : مصدر كبر يكبر كبرا أي : طعن في السن ، قال :
1267 - صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
قوله : وامرأتي عاقر جملة حالية : إما من الياء في "لي " فتعدد الحال عند من يراه ، وإما من الياء في "بلغني " . والعاقر : من لا يولد له رجلا كان أو امرأة ، مشتقا من العقر وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده والفعل بهذا المعنى لازم ، وأما عقرت بمعنى نحرت فمتعد ، قال تعالى : فعقروا الناقة ، وقال :
1268 - ... ... ... ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وقيل : "عاقر " على النسب أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث .
والعقر العقر بضم العين وفتحها : أصل الشيء ، ومنه : عقر الدار وعقر الحوض ، وفي الحديث : " ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا " وعقرته : أصبت عقره أي : أصله نحو : رأسته أي : أصبت رأسه ، والعقر أيضا : آخر الولد ، وكذلك بيضة العقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل مجازا وفي [ ص: 162 ] كلامهم : "رفع فلان عقيرته " أي : صوته ، وذلك أن رجلا عقر رجله فرفع صوته فاستعير ذلك لكل من رفع صوته . وقال بعضهم : "يقال : عقرت المرأة تعقر عقرا وعقارة " أنشد : الفراء
1269 - أرزام باب عقرت أعواما فعلقت بنيها تسماما
ويقال : عقر الرجل وعقر وعقر إذا لم تحبل زوجته فجعلوا الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة ، قال : "عاقر " : بمعنى ذات عقر ، قال : "لأن فعلت أسماء الفاعلين منه على فعيلة نحو : طريفة وكريمة ، وإنما " عاقر "على ذات عقر " قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عقرت بضم القاف إذا لو جاز فتحها أو كسرها لجاز منها "فاعل " من غير تأويل على النسب . ومن ورود "عاقر " وصفا للرجل قول الزجاج عامر بن الطفيل :
1270 - لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
قوله : كذلك الله يفعل ما يشاء في الكاف وجهان : أحدهما : أنها في محل نصب وفيه التخريجان المشهوران ، أحدهما - وعليه أكثر المعربين - أنها نعت لمصدر محذوف تقديره : يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فان وعجوز عاقر .
[ ص: 163 ] والثاني : أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك ، وهو مذهب وقد تقدم إيضاحه . سيبويه
والثاني : من وجهي الكاف أنها في محل رفع على أنها خبر مقدم ، والجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره "على نحو هذه الصفة الله " ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره الزمخشري : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله ، وقدره الشيخ فقال : "وذلك على حذف مضاف أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون " يفعل ما يشاء "شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة " فالكلام على الأول جملة واحدة وعلى الثاني جملتان . وقال ابن عطية : "ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال ابن عطية زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام على هذا التأويل في قوله : " كذلك " ، وقوله : الله يفعل ما يشاء جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب " انتهى . وعلى هذا الذي ذكره يكون "كذلك " متعلقا بمحذوف ، و "الله يفعل " جملة منعقدة من مبتدأ وخبر .