الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (75) قوله تعالى : من إن تأمنه : من مبتدأ ، و "من أهل " [ ص: 261 ] خبره ، قدم عليه ، و "من " : إما موصولة وإما نكرة ، و "إن تأمنه يؤده " هذه الجملة الشرطية : إما صلة فلا محل لها ، وإما صفة فمحلها الرفع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي : "تئمنه " في الحرفين ، و ما لك لا تأمنا بكسر حرف المضارعة ، وكذلك ابن مسعود والأشهب العقيلي ، إلا أنهما أبدلا الهمزة ياء ، وجعل ابن عطية ذلك لغة قريش ، وغلطه الشيخ . وقد تقدم لنا الكلام في كسر حرف المضارعة وشرط ذلك في سورة الفاتحة بكلام مشبع فليراجع ثمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والدينار أصله "دنار " بنونين ، فاستثقل توالي مثلين فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفا لكثرة دوره في لسانهم ، ويدل على ذلك رده إلى النونين تكسيرا وتصغيرا في قولهم : دنانير ودنينير ، مثله : قيراط : أصله قراط بدليل قراريط وقريريط كما قالوا : تظنيت وقصيت أظفاري ، يريدون تظننت وقصصت بثلاث نونات وثلاث صادات . والدينار معرب ، قالوا : ولم يختلف وزنه أصلا وهو أربعة وعشرون قيراطا ، كل قيراط ثلاث شعيرات معتدلة ، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم : "يؤده " بسكون الهاء في الحرفين ، وقرأ قالون : يؤده بكسر الهاء من دون صلة ، والباقون بكسرها موصولة بياء ، وعن هشام وجهان ، أحدهما : كقالون ، والآخر كالجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 262 ] فأما قراءة أبي عمرو ومن ذكر معه فقد خرجوها على أوجه أحسنها أنه سكنت هاء الضمير إجراء للوصل مجرى الوقف ، وهو باب واسع مضى لك منه شيء نحو : يتسنه وانظر أنا أحيي وأميت وسيمر بك منه أشياء إن شاء الله تعالى ، وأنشد ابن مجاهد على ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1336 - وأشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد الأخفش على ذلك أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      1337 - فظلت لدى البيت العتيق أخيله     ومطواي مشتاقان له أرقان



                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن هذا يخصه بعضهم بضرورة الشعر ، وليس كما قال لما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد طعن بعضهم على هذه القراءة فقال الزجاج : "هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه كما غلط عليه في بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسرا خفيا ، يعني يكسر في " بارئكم "كسرا خفيا فظنه [ ص: 263 ] الراوي سكونا " . قلت : وهذا الرد من الزجاج ليس بشيء لوجوه منها : أنه فر من السكون إلى الاختلاس ، والذي نص على أن السكون لا يجوز نص على أن الاختلاس أيضا لا يجوز ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس قال : "ليجري الوصل مجرى الوقف إجراء كاملا " ، وجعل قوله "عيونه سيل واديها " أحسن من قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1338 - ... ... ... ...     ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا



                                                                                                                                                                                                                                      حيث سكن الأول واختلس الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء ، وحكى الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب : إن الإنسان لربه لكنود بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع ، ويقولون : "له مال وله مال " بالإسكان والاختلاس . وقال الفراء : "من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقولون : ضربته ضربا شديدا ، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم " أنتم "و " فمنهم "وأصلها الرفع ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      1339 - لما رأى أن لا دعه ولا شبع     مال إلى أرطاة حقف فالطجع



                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وهذا عجيب من الفراء كيف ينشد هذا البيت في هذا المعرض [ ص: 264 ] لأن هذه الهاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتة في الوصل فقلبها هاء ساكنة في الوصل إجراء له مجرى الوقف ، وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيث ، لأن هاء التأنيث لا حظ لها في الحركة البتة ، ولذلك امتنع رومها وإشمامها في الوقف ، نصوا على ذلك ، وكان الزجاج يضعف في اللغة ، ولذلك رد على ثعلب في " فصيحه "أشياء أنكرها عن العرب ، فرد الناس عليه رده ، وقالوا : قالتها العرب ، فحفظها ثعلب ولم يحفظها الزجاج فليكن هذا منها .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم أن الفعل لما كان مجزوما وحلت الهاء محل لامه جرى عليها ما يجري على لام الفعل من السكون للجزم وهو غير سديد . وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها :


                                                                                                                                                                                                                                      1340 - له زجل كأنه صوت حاد      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1341 - أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن     قناعه مغطيا فإني لمجتلي



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1342 - وأغبر الظهر ينبي عن وليته     ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أنها لغة عقيل وكلاب أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 265 ] وأما قراءة الباقين فواضحة . وقرأ الزهري : " يؤدهو "بضم الهاء بعدها واو ، وقد تقدم أن هذا هو الأصل في هاء الكناية ، وقرأ سلام كذلك ، إلا أنه ترك الواو فاختلس ، وهما نظيرتا قراءتي : " يؤد هي ويؤده "بالإشباع والاختلاس مع الكسر .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم أو أمر معتل الآخر جرى فيها هذه الأوجه الثلاثة - أعني السكون والاختلاس والإشباع - وذلك : نؤته منها يرضه لكم نوله ما تولى ونصله جهنم فألقه إليهم ، وقد جاء ذلك في قراءة السبعة أعني الأوجه الثلاثة في بعض هذه الكلمات ، وبعضها لم يأت فيه إلا وجهان ، وسيأتي ذلك مفصلا في سوره إن شاء الله تعالى ، والسر فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرك فالفصيح فيها الإشباع نحو : إنه ، وبه ، وله ، وإن سبقها ساكن فالأشهر الاختلاس ، وسواء كان ذلك الساكن صحيحا أو معتلا نحو : فيه ومنه ، وبعضهم يفرق بين المعتل والصحيح ، وقد أتقنت ذلك في أول الكتاب ، إذا علم ذلك فنقول : هذه الكلمات المشار إليها إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرك فحقها أن تشبع حركتها موصولة بالياء أو الواو ، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن وهو حرف [ ص: 266 ] العلة المحذوف للجزم ، فلذلك جاز الاختلاس ، وهذا أصل نافع يطرد معك عند قربك في هذا الكتاب من هذه الكلمات .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " بدينار " في هذه الباء أوجه ، أحدها : أنها على أصلها من الإلصاق وفيه قلق ، والثاني : أنها بمعنى في ، ولا بد من حذف مضاف أي : في حفظ دينار وفي حفظ قنطار . والثالث : أن الباء بمعنى على ، وقد عدي بها كثيرا : لا تأمنا على يوسف هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه وكذلك هي في " بقنطار " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا ما دمت عليه قائما استثناء مفرغ من الظرف العام ، إذ التقدير : لا يؤده إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائما عليه متوكلا به . ودمت هذه هي الناقصة ترفع وتنصب ، وشرط إعمالها أن يتقدمها "ما " الظرفية كهذه الآية ، إذ التقدير إلا مدة دوامك ، ولا سوء ، فأما قولهم ، "يدوم " فمضارع "دام " التامة بمعنى بقي ، ولكونها صلة لـ "ما " الظرفية لزم أن تكون محتاجة إلى كلام آخر لتعمل في الظرف نحو : "لا أصحبك ما دمت باكيا " ، ولو قلت : "ما دام زيد قائما " من غير شيء لم يكن كلاما .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أبو البقاء في "ما " هذه أن تكون مصدرية فقط ، وذلك المصدر المنسبك منها ومن دام في محل نصب على الحال ، وهو استثناء مفرغ أيضا من الأحوال المقدرة العامة ، والتقدير : إلا في حال ملازمتك له ، وعلى هذا فتكون "دام " هنا تامة لما تقدم من أن تقدم الظرفية شرط في إعمالها ، وإذا كانت تامة انتصب "قائما " على الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : دام يدوم كقام يقوم ، ودمت قائما بضم الفاء وهذه لغة الحجاز ، [ ص: 267 ] وتميم يقولون : دمت بكسرها ، وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثاب والأعمش وطلحة والفياض بن غزوان ، قال الفراء : "وهذه لغة تميم ويجتمعون في المضارع ، فيقولون : يدوم " ، يعني أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضموم العين ، وكان قياس تميم أن تقول يدام كخاف يخاف ومات يمات ، فيكون وزنها عند الحجاز : فعل بفتح العين ، وعند التميميين : فعل بكسرها ، وهذا نقل الفراء ، وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون : دمت أدام كخفت أخاف ، نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني وأبي القاسم الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل هذه المادة الدلالة على الثبوت والسكون ، يقال : "دام الماء " أي سكن ، وفي الحديث : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " وفي بعضه بزيادة "الذي لا يجرى " وهو تفسير له ، وأدمت القدر ودومتها : سكنت غليانها بالماء ، ومنه دام الشيء : إذا امتد عليه زمان ، ودومت الشمس : إذا وقفت في كبد السماء ، قال ذو الرمة :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 268 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1343 - ... ... ... ...     والشمس حيرى لها في الجو تدويم



                                                                                                                                                                                                                                      هكذا أنشد الراغب هذا الشطر على هذا المعنى ، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يعبر به عن الاستدارة حول الشيء ، ومنه الدوام : وهو الدوار الذي يأخذ الإنسان في دماغه فيرى الأشياء دائرة ، وأنشد معه أيضا قول علقمة بن عبدة :


                                                                                                                                                                                                                                      1344 - تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها     ولا يخالطها في الرأس تدويم



                                                                                                                                                                                                                                      ومنه : دوم الطائر إذا حلق ودار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : عليه متعلق بقائما ، والمعنى بالقيام : الملازمة لأن الأغلب أن المطالب يقوم على رأس المطالب ، ثم جعل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ذلك بأنهم مبتدأ وخبر ، و "ذلك " إشارة إلى الاستحلال وعدم المؤاخذة في زعمهم ، أي : ذلك الاستحلال مستحق أو جائز بقولهم : " ليس علينا في الأميين سبيل " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ليس علينا يجوز أن يكون في "ليس " ضمير الشأن وهو اسمها ، وحينئذ يجوز أن يكون "سبيل " مبتدأ و "علينا " الخبر ، والجملة خبر "ليس " ويجوز أن يكون "علينا " وحده هو الخبر ، و "سبيل " مرتفع به على الفاعلية ، ويجوز أن يكون "سبيل " اسم ليس ، والخبر أحد الجارين - أعني علينا أو في الأميين - ويجوز أن يتعلق "في الأميين " بالاستقرار الذي تعلق به "علينا " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 269 ] وجوز بعضهم أن يتعلق بنفس "ليس " نقله أبو البقاء وغيره وفي هذا النقل نظر ، وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف ، وبنوا الخلاف على الخلاف في دلالتها على الحدث فمن قال : تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه ، ومن قال : لا تدل على الحدث منع إعمالها ، واتفقوا على أن "ليس " لا تدل على حدث البتة فكيف تعمل ؟ هذا ما لا يعقل . ويجوز أن يتعلق "في الأميين " بسبيل ، لأنه استعمل بمعنى الحرج والضمان ونحوهما ، ويجوز أن يكون حالا منه ، فيتعلق بمحذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : على الله الكذب يجوز أن يتعلق "على الله " بالكذب وإن كان مصدرا ؛ لأنه يتسع في الظرف وعديله ما لا يتسع في غيرهما ، ومن منع علقه بيقولون متضمنا معنى يفترون فعدي تعديته ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "الكذب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وهم يعلمون جملة حالية ، ومفعول العلم محذوف اقتصارا أي : وهم من ذوي العلم ، أو اختصارا أي : يعلمون كذبهم وافتراءهم وهو أقبح لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية