الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (99) قوله تعالى : لم تصدون : "لم " متعلق بالفعل بعده ، و " من آمن " مفعول ، وقوله " يبغونها " يجوز أن تكون جملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ، وأن تكون في محل نصب على الحال ، وهو أظهر من الأول لأن الجملة الاستفهامية جيء بعدها بجملة حالية أيضا وهي قوله :" وأنتم تشهدون" فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قلنا بأنها حال ففي صاحبها احتمالان ، أحدهما : أنه فاعل " تصدون " ، والثاني : أنه "سبيل الله " وإنما جاز الوجهان لأن الجملة اشتملت على ضمير كل منهما .

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على "تصدون " بفتح التاء من صد يصد ثلاثيا ، ويستعمل لازما ومتعديا . وقرأ الحسن : "تصدون " بضم التاء من أصد مثل أعد ، ووجهه أن يكون عدى "صد " اللازم بالهمزة ، قال ذو الرمة :


                                                                                                                                                                                                                                      1362 - أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      و " عوجا " فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يراد تبغون : تطلبون ، قال الزجاج والطبري : "تطلبون لها اعوجاجا ، تقول العرب : " [ ص: 326 ] ابغني كذا "بوصل الألف أي : اطلبه لي و " أبغني كذا "بقطع الألف أي : أعني على طلبه ، قال ابن الأنباري : " البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك : بغيت المال والأجر والثواب ، وها هنا أريد : يبغون لها عوجا ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدها كما قالوا : "وهبتك درهما " يريدون : وهبت لك ، ومثله : "صدتك ظبيا " أي : صدت لك ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1363 - فتولى غلامهم ثم نادى     أظليما أصيدكم أم حمارا



                                                                                                                                                                                                                                      يريد : أصيد لكم ظليما ومثله : "جنيتك كمأة وجنيتك رطبا " والأصل : جنيت لك ، فحذف ونصب " .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه حال من فاعل " يبغونها "وذلك أن يراد بـ " تبغون "معنى تتعدون ، والبغي التعدي ، والمعنى : تبغون عليها أو فيها . قال الزجاج : " كأنه قال : تبغونها ضالين " .

                                                                                                                                                                                                                                      والعوج بالكسر والعوج بالفتح - الميل ، ولكن العرب فرقوا بينهما ، فخصوا المكسور بالمعاني والمفتوح بالأعيان ، تقول : في دينه وكلامه عوج بالكسر - ، وفي الجدار عوج بالفتح - . قال أبو عبيدة : " العوج بالكسر - الميل في الدين والكلام والعمل ، وبالفتح في الحائط والجذع "وقال أبو إسحاق : " بالكسر فيما لا ترى له شخصا ، وبالفتح فيما له شخص وقال صاحب "المجمل " :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 327 ] "بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعوج - يعني بالكسر - ما كان في بساط أو دين أو أرض أو معاش " فقد جعل الفرق بينهما بغير ما تقدم . وقال الراغب : "العوج : العطف عن حال الانتصاب ، يقال : عجت البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج عن شيء يهم به أي يرجع ، والعوج - يعني بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه ، والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج فيعرف تفاوته بالبصيرة وكالدين والمعاش " قلت : وهذا قريب من قول ابن فارس لأنه كثيرا ما يأخذ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سأل الزمخشري في سورة طه عند قوله لا ترى فيها عوجا ولا أمتا حاصله يرجع إلى أنه كيف قيل : عوج بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني ؟ وأجاب هناك بجواب حسن سيأتي بيانه إن شاء الله ، والسؤال إنما يجيء على قول أبي عبيدة والزجاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن مجيء العوج بمعنى الميل من حيث الجملة قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1364 - تمرون الديار ولم تعوجوا     كلامكم علي إذا حرام



                                                                                                                                                                                                                                      وقول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1365 - عوجا على الطلل المحيل لأننا     نبكي الديار كما بكى ابن حذام



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 328 ] أي : ولم تميلوا ، وميلا . وأما قولهم : "ما يعيج زيد بالدواء " أي : ما ينتفع به فمن مادة أخرى ومعنى آخر . والعاج : هذا العظم ألفه مجهولة ، لا نعلم : أمنقلبة عن واو أو ياء ، وفي الحديث : أنه قال لثوبان "اشتر لفاطمة سوارا من عاج " قال القتيبي : "العاج : الذبل " ، وقال أبو خراش الهذلي في امرأة :


                                                                                                                                                                                                                                      1366 - فجاءت كخاصي العير لم تحل جاجة     ولا عاجة منها تلوح على وشم



                                                                                                                                                                                                                                      قال الأصمعي : "العاجة : الذبلة ، والجاجة : تخمين خرزة ما يساوي فلسا ، وقوله كخاصي العير : هذا مثل تقوله العرب لمن جاء مستحييا من أمر فيقال : " "جاء كخاصي العير " والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحييا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : عاج بالمكان وعوج به أي : أقام وقطن وفي حديث إسماعيل عليه السلام : "ها أنتم عائجون " أي مقيمون ، وأنشدوا لجرير :


                                                                                                                                                                                                                                      1367 - هل أنتم عائجون بنا لغنا     نرى العرصات أو أثر الخيام



                                                                                                                                                                                                                                      كذا أنشد هذا البيت الهروي مستشهدا به على الإقامة ، وليس بظاهر ، بل المراد بعائجون في البيت مائلون وملتفتون ، وفي الحديث : " ثم عاج رأسه إليها " أي التفت إليها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 329 ] و "ها " في "يبغونها " عائدة على سبيل ، والسبيل يذكر ويؤنث كما تقدم ، ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله تعالى : هذه سبيلي وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1368 - فلا تبعد فكل فتى أناس     سيصبح سالكا تلك السبيلا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأنتم شهداء حال : إما من فاعل "تصدون " وإما من فاعل "تبغون " ، وإما مستأنف ، وليس بظاهر ، وتقدم أن "شهداء " جمع شهيد أو شاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية