الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (15) قوله تعالى : واللاتي : اللاتي : جمع "التي " في المعنى لا في اللفظ ؛ لأن هذه صيغ موضوعة للتثنية والجمع ، وليست بتثنية ولا جمع حقيقة . وقال أبو البقاء : "اللاتي جمع " التي "على غير قياس ، وقيل : هي صيغة موضوعة للجمع " ومثل هذا لا ينبغي أن يعده خلافا . ولها جموع كثيرة : ثلاث عشرة لفظة ، وهي : اللاتي واللواتي واللائي ، وبلا ياءات فهذه ست ، واللاي بالياء من غير همز ، واللا من غير ياء ولا همز ، واللواء بالمد ، واللوا بالقصر ، و "الألى " كقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 617 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1557 - فأما الألى يسكن غور تهامة فكل فتاة تترك الحجل أفصما



                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الكثير أن تكون جمع "الذي " . و "اللاءات " مكسورا مطلقا أو معربا إعراب جمع المؤنث السالم كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1558 - أولئك إخواني الذين عرفتهم     وأخدانك اللاءات زين بالكتم



                                                                                                                                                                                                                                      برفع "اللاءات " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي محل "اللاتي " قولان ، أحدهما : أنه رفع بالابتداء ، وفي الخبر حينئذ وجهان ، أحدها : الجملة من قوله : "فاستشهدوا " ، وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر وإن لم يجز زيادتها في نحو : "زيد فاضرب " على رأي الجمهور ، لأن المبتدأ أشبه الشرط في كونه موصولا عاما صلته فعل مستقبل ، والخبر مستحق بالصلة .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن الخبر محذوف ، والتقدير : "فيما يتلى عليكم حكم اللاتي " ، فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا نظير ما فعله سيبويه في نحو : الزانية والزاني فاجلدوا والسارق والسارقة فاقطعوا أي : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ويكون [ ص: 618 ] قوله "فاستشهدوا " و "فاجلدوا " دالا على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني : أن محله نصب ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب بفعل مقدر لدلالة السياق عليه لا على جهة الاشتغال لما سنذكره ، والتقدير : اقصدوا اللاتي يأتين ، أو تعمدوا . ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله "فاستشهدوا " فتكون المسألة من باب الاشتغال ، لأن هذا الموصول أشبه اسم الشرط كما تقدم تقريره ، واسم الشرط لا يجوز أن ينتصب على الاشتغال لأنه لا يعمل فيه ما قبله ، فلو نصبناه بفعل مقدر لزم أن يعمل فيه ما قبله . هذا ما قاله بعضهم ، ويقرب منه ما قاله أبو البقاء فإنه قال : "وإذا كان كذلك - أي كونه في حكم الشرط - لم يحسن النصب ؛ لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز ، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله " فاستشهدوا "لأن " استشهدوا "لا يصح أن يعمل النصب في " اللاتي "وفي عبارته مناقشة يطول بذكرها الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه منصوب على الاشتغال ، ومنعهم ذلك بأنه يلزم أن يعمل فيه ما قبله جوابه أنا نقدر الفعل بعده لا قبله ، وهذا خلاف مشهور في أسماء الشرط والاستفهام : هل يجري فيها الاشتغال أم لا ؟ فمنعه قوم لما تقدم ، وأجازه آخرون مقدرين الفعل بعد الشرط والاستفهام ، وكونه منصوبا على الاشتغال هو ظاهر كلام مكي فإنه ذكر ذلك في قوله : واللذان يأتيانها [ ص: 619 ] منكم فآذوهما والآيتان من واد واحد ، ولا بد من إيراد نصه ليتضح لك قوله ، قال - رحمه الله - : " واللذان يأتيانها " الاختيار عند سيبويه في "اللذان " الرفع ، وإن كان معنى الكلام الأمر ، لأنه لما وصل بالفعل تمكن معنى الشرط فيه إذ لا يقع على شيء بعينه ، فلما تمكن معنى الشرط والإبهام جرى مجرى الشرط في كونه لم يعمل فيه ما قبله كما لا يعمل في الشرط ما قبله من مضمر أو مظهر " . ثم قال : " والنصب جائز على إضمار فعل لأنه إنما أشبه الشرط ، وليس الشبيه بالشيء كالشيء في حكمه " . انتهى . وليس لقائل أن يقول : مراده النصب بإضمار فعل النصب لا على الاشتغال ، بل بفعل مدلول عليه ، كما تقدم نقله عن بعضهم ، لأنه لم يكن لتعليله بقوله : " لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره "فائدة إذ النصب كذلك لا يحتاج إلى هذا الاعتذار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : من نسائكم في محل نصب على الحال من الفاعل من " يأتين " ، فيتعلق بمحذوف أي : يأتين كائنات من نسائكم . وأما قوله " منكم "ففيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بقوله : " فاستشهدوا " . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " أربعة " ، فيكون في محل نصب تقديره : فاستشهدوا عليهن أربعة كائنة منكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله " حتى " ، " حتى "بمعنى إلى ، فالفعل بعدها منصوب بإضمار " أن "وهي متعلقة بقوله : " فأمسكوهن "غاية له . وقوله : " أو يجعل "فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون " أو "عاطفة فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا ، فينتصب " يجعل "بالعطف على " يتوفاهن " . والثاني : أن تكون " أو "بمعنى " إلا "كالتي في قولهم " لألزمنك أو تقضيني حقي "على أحد المعنيين ، والفعل بعدها [ ص: 620 ] منصوب أيضا بإضمار " أن "كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1559 - فسر في بلاد الله والتمس الغنى     تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : إلا أن تموت . والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الجعل ليس غاية لإمساكهن في البيوت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " لهن "فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلق بـ " يجعل " . والثاني : أنه متعلق بمحذوف لأنه حال من " سبيل " ، إذ هو في الأصل صفة نكرة قدم عليها فنصب حالا ، هذا إن جعل الجعل بمعنى الشرع أو الخلق ، وإن جعل بمعنى التصيير فيكون " لهن "مفعولا ثانيا قدم على الأول وهو " سبيل " ، وتقديمه هنا واجب لأنهما لو انحلا لمبتدأ وخبر وجب تقديم هذا الخبر لكونه جارا ، والمبتدأ نكرة لا مسوغ لها غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية